قال الجاحظ: كان يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ويشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت. قالوا: والعلم الأسنى في ذلك، سورة الفتح، التي هي مطلع القرآن فإنها مشتملة على جميع مقاصده.
كما قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، ثنا محمد بن صالح صبيح، عن الحسن قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم المفصل الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة.
وقد وجه ذلك، بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن، وقامت بها الأديان أربعة: الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته. وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم، ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة، بالذين أنعمت عليهم، ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة، بمالك يوم الدين، وعلم العبادات، وإليه الإشارة، بإياك نعبد، وعلم السلوك وهو حمل النفس على الآداب الشرعية، والانقياد لرب البرب، وإليه الإشارة، بإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم، وعلم القصص وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ليعلم المطلع على ذلك، سعادة الله وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة، وكذلك أول سورة اقرأ، فإنها مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال، لكونها أول ما أنزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة والبدء فيها باسم الله، وفيه الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذاتٍ، وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: علم الإنسان ما لم يعلم، ولهذا قيل: إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
وقال الزنجاني في الفوائد الغيثية: وأحسن براعة الاستهلال موقعاً، وأبلغها معنى، فواتح صور كلام الله، سيما حروف التهجي، فإنها توقظ السامعين للإصغاء إلى ما يرد بعدها، لأنهم إذا سمعوها من النبي الأمي علموا أنها والمتلو بعدها من جهة الوحي. وفيها تنبيه على أن المتلو عليهم من جنس ما ينظمون منه كلامهم، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
تذنيب في تفسير الجويني: ابتدأت الفاتحة بقوله: الحمد لله رب العالمين، فوصف بأنه مالك جميع المخلوقات. وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر، لم يوصف بذلك، بل بفرد من أفراد صفاته وهو خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور في الأنعام، وأنزل الكتاب في الكهف، وملك ما في السماوات والأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر. لأن الفاتحة أم القرآن ومطلعه، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها وأشملها.
وفي تذكرة الشيخ تاج الدين السبكي: سئل الإمام ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد؟ فأجاب: بأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد، نحو: فسبح بحمد ربك، سبحان الله والحمد لله. وأجاب ابن الزملكاني: بأن سورة سبحان، لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (، وتكذيبه تكذيب لله تعالى، أتى بسبحان، لتنزيه الله عما نسب إليه من الكذب. وسورة الكهف، لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف، وتأخر الوحي، نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.
إذا علمت ذلك، فاعلم: أن براعة الاستهلال في مطلع القصيدة هو كونه دالاً على ما بنيت عليه من مدح، أو هجاء، أو تهنئة، أو عتب؛ أو غير ذلك. فإذا جمع المطلع بين حسن الابتداء، وبراعة الاستهلال، كان هو الغاية التي لا يدركها إلا مصلي هذه الحلبة، والحالب من أشطر البلاغة أو فر حلبه.
والبراعة: مصدر، قولهم برع الرجل براعة، أي فاق أصحابه في العلم وغيره.