قال في المفتاح: والعرب يستكثرون من الالتفات، ويرون الكلام إن انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القلوب عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه، واملأ باستدرار إصغائه، وهم أحرياء بذلك، أليس قري الأضياف سجيتهم، ونحر العشار للضيف دأبهم وهجيراتهم؟ - لا مزقت أيدي الأدوار لهم أديماً ولا أباحت لهم حريما - أفتراهم يحسنون قري الأشباح فلا يخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، ولا يحسنون قرى الأرواح فلا يخالفون بين أسلوب وأسلوب، وإيراد وإيراد؟ فإن الكلام المفيد عند الإنسان - لكن بالمعنى لا بالصورة - أشهى غذاء لروحه، وأطيب قرى لها. انتهى.
وهذا الوجه وهو إفادة التطرية لنشاط السامع هو فائدته العامة، وقد يختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله. وأقسامه ستة، حاصلة من ضرب الطريق الثلاثة في الاثنين، لأن كلا من الطرق الثلاثة ينقل إلى الآخرين.
أحدهما الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ومثاله قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) إلى قوله (إياك نعبد وإياك نستعين) فالتفت من الغيبة إلى الخطاب، والنكتة فيه أن العبد إذا ذكر الحقيقة بالحمد عن قلبٍ حاضر، ثم ذكر صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها (مالك يوم الدين) المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء، يجد من نفسه حاملاً لا يقدر على دفعه، على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
ومن أمثلته في الشعر قول ربيعة بن مقروم:
تهدمت الحياض فلم يغادر ... لحوض من نصائبه إزاءُ
لخولة إذ هم مغنى وأهلي ... وأهلك ساكنون وهم رتاءُ
ففي قوله وأهلك التفات من الغيبة إلى الخطاب. والنصائب: حجارة تنصب حول الحوض. والإزاء: مصب الماء إلى الحوض. ورتاء، أي متقابلة.
وقول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوع ... سقيت الغيث أيتها الخيامُ
وقول أبي العلاء المعري:
هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكراً وأزوارارا
أنا بدر وقد بدا الصبح في را ... سك والصبح يطرد الأقمار
لستِ بدراً وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجى وتبدو نهارا
وقول شريف الرضي) رضي الله عنه (:
مَن شافعي وذنوبي عندها الكبر ... إن البياض لذنب ليس يغتفرُ
راحت تريح عليك الهم صاحية ... وعند قلبك من غي الهوى سكر
رأت بياضك مسوداً مطالعه ... ما فيه للحب لا عين ولا أثرُ
وأي ذنب للون راق منظره ... إذا أراك خلاف الصبغة الأثر
وما عليك ونفسي فيك واحدة ... إذا تلون في ألوانه الشعر
وقول أبي الحسن التهامي:
أهدت لنا من خدها ورضابها ... ورداً تحيينا به وشمولا
ورداً إذا ما شم زاد غضاضة ... ولو أنه كالورد زاد ذبولا
وجلت لنا برداً يشهي برده ... نفس الحصور العابد التقبيلا
لم أنسها تشكو الفراق بأدمع ... ما اعتدن في الخد الأسيل سبيلا
فرأيت سيف اللحظ ليس بمغمد ... من تحت أدمعها ولا مسلولا
إن دام دمعك فاحذري غرقا به ... فإذا توالى القطر صار سيولا
حطي النقاب لعل سرح لحاظنا ... في روض وجهك يرتعين قليلا
لما اتنقبت حسبت وجهك شعلة ... خلل النقاب وخلته قنديلا
وقول شيخنا محمد بن علي الشامي:
زعمت بثينة إن قلبك قد سلا ... من لي بقلب مثل قلبك قلبِ
وفي هذا البيت التفاتان، أحدهما من الخطاب إلى التكلم، والثاني من الغيبة إلى الخطاب، وهو ما نحن فيه. وعلى رأي السكالي، فيه ثلاث التفاتات كما لا يخفى.
وما أحسن قوله بعده:
قد كنت آمل أن تموت صبابتي ... حتى نظرت إليك يا ابنة يعربِ
فطربت ما لم تطربي ورغبت ما ... لم ترغبي ورهبت ما لم ترهبي
وقول الشيخ حسين الطبيب من قصيدة يمدح بها الوالد:
خليلي عوجاً بي على أيمن الحمى ... لعل سماحاً بالوصال تسامحُ
سواء علي الموت أم شطت النوى ... بسمحاء أم حز الوريدين ذابح
تجنبتها لا عن ملال ولا قلى ... ولكن مصاب يصدع القلب فادح
وإن رمت أسلو حبها حال دونه ... رسيس جوى ضمت عليه الجوانح
قضى الله يا سمحاء بالبين بينا ... إلا كل ما يقضي به الله صالح