حنانيك أنت الداء والبرء إنما ... يفوز ويشقى فيك دان ونازحُ
من الاتفاق الغريب إن هذه الأبيات جرت على لسان الشيخ المذكور مجرى الفأل، فقضى الله سبحانه بالبين بين الشيخ وبين فتاته سماح المتغزل فيها بهذه الأبيات، فتوفى بعد نظمه هذه القصيدة بأيام يسيرة.
الثاني الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وهو عكس الأول، ومثاله قوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) والأصل بكم، ونكتته العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم، التعجب من كفرهم وفعلهم، واستدعاء الإنكار منهم عليهم، فلو استمر على خطابهم لفاتت هذه الفائدة، وقيل فيها غير ذلك.
ومن أمثلته في الشعر قول النابغة الذبياني:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرمِ
كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلمِ
وقول بعضهم:
أن يكن مسك الليالي بصرف ... فهو مثل الحسام يجلو صقلُ
وقول البحتري:
ضمان على عينيك إني لا أسلو ... وإن فؤادي من جوى بك لا يخلو
ولو شئت يوم الجزع بل غليله ... محب بوصل منك أن أمكن الوصل
وما النائل المطلوب منك بمعوز ... لديك بل الإسعاف بعوز والبذل
أطاع لها دل غرير وواضح ... شتيت وقد مرهف وشوى خدل
وألحاظ عين ما علقن بفارغ ... فخلينه حتى يكون له شغل
وعندي أحشاء تساق صبابة ... إليها وقلب من هوى غيرها غفل
وقول الشريف الرضي يخاطب الخلفاء العباسيين:
ردوا تراث محمد ردوا ... ليس القضيب لكم ولا البرد
هل أعرقت فيكم كفاطمة ... أم هل لكم كمحمد جد
جل افتخارهم بأنهم ... عند الخصام مصاقع لد
إن الخلائف والأولى فخروا ... بهم علينا قبل أو بعد
شرفوا بنا ولجدنا خلقوا ... فهم صنائعنا إذا عدوا
الثالث - الالتفات من الغيبة إلى التكلم، ومثاله قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميتٍ) والأصل (فساقه) . قال الزمخشري: وفائدته في هذه الآية وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وإنه لا يدخل تحت قدرة أحد.
ومن أمثلته في الشعر قول مهيار بن مرزويه الكاتب:
حمام اللوى رفقاً به فهو لبه ... جواد رهان نوحكن ونحبهُ
أعمداً تهيجن أمرأ بأن أنسه ... وأسلمه حتى أخوه وصحبه
أمر ومهري مغرمين على اللوى ... فأسأله أو كان ينطق تربه
وقول الحاجري:
أهل لك في إعانة مستهام ... يقاد إلى الغرام بلا زمامِ
تعرض بالخيام على زرود ... فراح وقلبه بين الخيام
عريب البر كيف أبيح قتلي ... أليس العرب تعرف بالذمام
وقول شهاب الدين التلعفري:
لا تقولوا سلا ومل هوانا ... وتسلى عنا بحب سوانا
كيف يسلوكم ويصبر عنكم ... من يرى سيئاتكم إحسانا
قسماً بعد بعدكم وجفاكم ... لم يفارق لي البكا أجفانا
وقوله:
خل الشجي وقلبه وكلومه ... فعلام تعذله وفيم تلومهُ
هذا عتابك قد أطلت حديثه ... وهوى فؤادي قد يراه قديمه
وقولي وهو صدر قصيدة مدحت بها الوالد، مهنئاً له بالنيروز ستة إحدى وسبعين:
من لحزين كلفٍ موجع ... قد شفه الشوق إلى الأربعِ
ما لي وللأربع ما لم تكن ... ربوع سلمى ربة البرقع
لم أنس عصراً قد تقضى بها ... وجمعنا إذ هو لم يصدع
بكيت يوم البين وجداً فلم ... أبق لذكرى الوصل من أدمعي
فهل لذاك الشمل من ناظمٍ ... أم هل لذاك العصر من مرجع
الرابع - الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وهو عكس الذي قبله، ومثاله قوله تعالى: (إني رسول الله إليكم جميعا) إلى قوله: (فآمنوا بالله ورسوله) والأصل (وبي) فعل عنه لنكتتين، أحدهما دفع التهمة عن نفسه بالمعصية لها، والأخرى تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص والمتلوة.
ومن أمثلته في الشعر قول عبد الهل بن طاهر:
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي ... أخشى عقوبة مالك الأملاكِ