بلوت الناس مذ خمسين عاما ... وحسبك بالمجرب من عليم.
فما أحد يعد ليوم خيرٍ ... ولا أحد يعود على حميم.
ويعجبني الفتى وأظن خيرا ... فأكشف من عن رجل لئيم.
تقيل بعضهم بعضا فأضحوا ... بني أبوين قدوا من أديم.
وطاف الناس بالحسن بن سهل ... طوافهم بزمزم والحطيم.
وقالوا سيدٌ يعطي جزيلاً ... ويكشف كربة الرجل الكظيم.
فقلت مضى بذم القوم شعري ... وقد يؤتى البريء من السقيم.
وخبر تترجمه ظنون ... بأشفى من معاينة الحليم.
فجئت وللأمور مبشرات ... ولن يخفى الأغر من البهيم.
فإن يك ما ينشر عنه حقا ... رجعت بأهبة الرجل المقيم.
وإن يك غير ذاك حمدت ربي ... وزال الشك عن رجل حكيم.
وما الآمال تعطفني عليه ... ولكن الكريم أخو الكريم.
قال: فلما أنشدته هذا الشعر قال لي: أبمثل هذا الشعر تلقى الأمير؟ والله لو كان نظيرك ما يجوز أن تخاطبه بمثل هذا؛ قلت: لذلك قلت لك: إني لم أمدحه بعد، ولكني سأمدحه، قال: افعل وأنزلني عنده. ودخل على الحسن فأخبره بخبري، فأمر بإدخالي إليه من غير مدح، وأمرني أن أنشد الشعر وقال: قد قنعنا منك بهذا القدر إذا لم تدخلنا بجملة من ذممت فأنشدته إياه فضحك وقال: ويحك ما لك وللناس؟ حسبك الآن، فقلت قد وهبتهم للأمير، فقال: قد قبلت وأنا أطالبك بالوفاء، ثم وصلني فأجزل وكساني فقلت في ذلك وأنشدته:
وهبت الناس للحسن بن سهل ... فعوضني الجزيل من الثواب.
وقال دع الهجاء وقل جميلا ... فإن القصد أقرب للصواب.
فقلت له برئت إليك منهم ... فليتهم بمنقطع التراب.
ولولا نعمة الحسن بن سهل ... علي لسمتهم سوء العذاب.
بشعر تعجب الشعراء منه ... يشبهه بالهجاء وبالعتاب.
أكيدهم مكايدة الأعادي ... وأختلهم مخاتلة الذئاب.
بلوت خيارهم فبلوت قوما ... كهولهم أخس من الشباب.
وما مسخوا كلابا غير أني ... رأيت القوم أشباه الكلاب.
فضحك، فقال: ويحك من الآن ابتدأت تهجوهم؟ فقلت: هذه بقيت طفحت على قلبي وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير.
وأخباره ونكته كثيرة، فلنكتف منها بهذا القدر. وإنما تعرضنا لترجمته لكون بيتيه المذكورين في زواج المأمون ببوران بنت الحسن من أحسن شواهد هذا النوع، بل قيل أنه ليس للسلف ولا المتأخرين فيه غيرهما، وغير البيت المتعلق بالخياط.
وقد ظفرت أنا ببيت لبعض السلف يصدق عليهم حدهم للإبهام، ولم يستشهد به أحد من البديعيين قيما أعلم.
وهو قول الشاعر:
ويرغب أن يبني المعالي خالد ... ويرغب أن يرضى صنيع الألائم.
فإن هذا يحتمل المدح والذم لأنه إن قدر (في) أولا و (عن) ثانيا فمدح، وإن عكس فذم، إذ يقال: رغب فيه، ورغب عنه.
ولهذا اشترط ابن مالك في حذف الجار مع أن، وأن تعيين الجار ليؤمن اللبس، قال: فلا يقال: رغبت أن تفعل، إذ لا يدري هل التقدير: في أن تفعل، أو عن تفعل.
واستشكله ابن هشام في الأوضح بقوله تعالى "وترغبون أن تنكحوهن" لحذف الجار، مع أن المفسرين اختلفوا في المراد.
وأجاب في المغني: بأنه إنما حذف الجار للقرينة المعينة، وإنما اختلف العلماء في المقدر من الحرفيين في الآية لاختلافهم في سبب نزولها، فالاختلاف في الحقيقة إنما هو في القرينة.
وأجاب المرادي بذلك، وبأنه أراد الإبهام ليرتدع من يرغب فيهن لجمالهن ومالهن، ومن يرغب عنهن لدمامتهن وفقرهن.
واستحسنه بعضهم، قال: لأن من شرط أمن اللبس يقول: إذ خيف اللبس لم يجز الحذف، وعند إرادة الإبهام لا يخاف اللبس فيجوز الحذف لأجلها. انتهى وهو في محله.
ومن لطيف الإبهام ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان قال لعقيل بن أبي طالب عليه السلام: إن أخاك عليا قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر، قال أفعل، فصعد المنبر فقال بعد أن حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس قد أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان فالعنوه لعنة الله عليه، ثم نزل.
فقال له معاوية: إنك لم تبين من لعنت بيني وبينه، فقال: والله لا زدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام على نية المتكلم.