وغلط ابن حجة فعد من هذا النوع قصة سليمان بن كثير مع أبي مسلم الخراساني وقال: إنها من أغرب ما نقل من شواهد الإبهام التي ما يليق بغيره وهي: أن أبا مسلم قال لسليمان: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى ذكري فقلت: اللهم سود وجهه، واقطع رأسه، واسقني من دمه، فقال: نعم قلت ذلك ونحن جلوس تحت كرم وحصرم. فاستحسن أبو مسلم ذلك منه. وهذا مما أخطأ فيه ابن حجة الصواب، بل هذا المثال كما قاله بعض الفضلاء المتأخرين ممن تقدم عصرنا بقليل: من نوع المواربة- براء مهملة فباء موحدة- وحقيقتها كما سيأتي، أن يقول المتكلم قولا يتضمن الإنكار عليه، ثم يستحضر بحذقه وجها من الوجوه التي يمكن التخلص بها من تلك المؤاخذة، إما بتحريف كلمة أو بتصحيفها أو بزيادة أو نقص أو غير ذلك.
واشتقاقها من ورب العرق إذ فسد، فكأن المتكلم قد أفسد ظاهر كلامه بما أبدأه من تأويل باطنه، وبه ظهر أن القصة المذكورة لا يصح أن يمثل بها لغير المواربة، لما اشتملت عليه من إفساد سليمان بن كثير ظاهر كلامه بتأويله بما لا يخطر ببال، ولا يتبادر إلى ذهن، من إرجاع ضمائره إلى الحصرم، ولا يعد إبهاما لاشتراطنا في حده استواء معنييه في احتمال أن يكون كل منهما مقصودا فاعلم.
وعد ابن الأثير في المثل السائر من الإبهام قول أبي الطيب المتنبي في كافور:
فمالك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان.
ومالك تختار القسي وإنما ... عن السعد يرمي دونك الملوان.
قال: فإن هذا لا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه، لأنه يقول: إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا أفضل فيه، لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. قال: وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد الكافوريات.
وتعقبه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر فقال: إن الناس وقع لهم واقع طريف مع المتنبي، وكن أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني، فإنه نبه المتنبي على شيء من هذا الباب لم يكن قصده ولا خطر بباله، فضحك المتنبي ولم يكن ذلك لبغضه لكافور وحقده عليه. فصار قيه حديث طويل وزعم أن من جاء بعده أن المتنبي كان يقصد ذلك، ويمدحه بالشعر الموجه الذي يحتمل المدح والذم، ومنهم من يزعم أن كافورا كان يتفطن لذلك ويغضي عنه، وينقلون هذا هن المتنبي، وما كان ذلك قط ولا وقع شيء منه ولا قصد أبو الطيب نحو ذلك أصلاً.
فأما هذان البيتان فقد قال في سيف الدولة مثلهما كثرا، نحو قوله له: ولقد رمت بالسعادة بعضاً=من نفوس العدى فأدركت كُلا ونحو قوله له:
إذا سمعت الأعداء في كيد جدِّه ... سعى جدّه في سعي محنق.
قال: وهذه الرواية أولى من رواية من روى (سعى مجده في جده) لأن قوله بعده:
وما ينصر الفضل المبين على العدى ... إذ لم يكن فضل السعيد الموفق.
يؤكد ما ذكرناه.
ونحو قوله له:
لو لم تكن تجري على أسيافه ... مهجاتهم لجرت على إقباله.
ونحو قوله له:
هم يطلبون فما أدركوا ... وهم يدعون فمن يقبل.
وهم يتمنون ما يشتهون ... ومن دونه جدك المقبل.
وقد قال لعضد الدولة أبي شجاع، وهو أعظم ملكا من سيف الدولة وأشد بأسا وأكثر انتقادا للشعر وهو يذكر هزيمة وهوذان عن عسكر ركن الدولة أبيه:
وليت يومي فناء عسكره ... ولم تكن دانيا ولا شاهد.
ولم يغب غائب خليفته ... جيش أبيه وجده الصاعد.
وقال له في هذه القصيدة وقد صرح أنه يقهر الأعداء بالجد فقط، والخطاب مع وهوذان:
وأنى شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا.
يشرديمن فناخسر عني ... قنا الأعداء والطعن الدراكا.
وقال لغيرهما من ممدوحيه:
نفذ القضاء بما أردت كأنه ... لك كلما أزمعت شيئا أزمعا.
وأطاعك الدهر العصي كأنه ... عبد إذا ناديت رد مسرعا.
ولكن سيف الدولة لما اشتهر إخلاص أبي الطيب في ولائه عدل الناس عن هذا الشعر الذي يتضمن ذكر الجد والحظ، فلم يذكروه ولم يجعلوه موجها متوسطا بين المدح والذم، وقالوا ذلك في كافور لمكان تقصيره بأبي الطيب، وانحراف كل واحد منهما عن صاحبه، ومجاهرة أبي الطيب له بعد مفارقته بالهجاء. ولو تأملت الأشعار كلها وأردت أن تستنبط منها ما يمكن أن يكون هجاء لقدرت.