للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو الراجح من أقوال أهل العلم (١)، والقول بإفطار الصائم


(١) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الحجامة للصائم على النحو الآتي:
القول الأول: إن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال إسحاق، وابن المنذر، ومحمد بن إسحاق، وابن خزيمة، وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي، وكان الحسن ومسروق، وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم، وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلاً في الصوم، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. [انظر بعض هذه الآثار في: صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، قبل الحديث رقم ١٩٣٨، ومنها: أثر ابن عمر، وأبي موسى]. [المغني لابن قدامة، ٤/ ٣٥٠، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف، ٧/ ٤١٩ - ٤٢٣].
القول الثاني: إن الحجامة لا تفطر الصائم، ويجوز للصائم أن يحتجم، وبهذا قال الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري، ورخص فيها أبو سعيد الخدري، وابن مسعود، وأم سلمة، وحسين بن علي، وعروة، وسعيد بن جبير؛ لما روى البخاري عن ابن عباس: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم)). [البخاري، برقم ١٩٣٩]. وبما رواه رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمها، إبقاء على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله إنك تواصل إلى السحر؟ فقال: ((إنى أواصل إلى السحر وربي يطعمني ويسقني))، [أبو داود، برقم ٢٣٧٤، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٦٣].
وقال أنس - رضي الله عنه -: ((ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد)). [أبو داود، برقم ٢٣٧٥، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٦٣].
وقد ردّ أصحاب القول الأول على أصحاب القول الثاني، فقال ابن قدامة رحمه الله: ((ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد عشر نفساً، قال: أحمد: حديث شداد بن أوس أصح حديث يروى في هذا الباب، وإسناد حديث رافع إسناد جيد، وقال: حديث شداد وثوبان صحيحان، وعن علي بن المديني أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث شداد وثوبان، وحديثهم [أي أصحاب القول الثاني] منسوخ بحديثنا، بدليل ما روى ابن عباس أنه قال: ((احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة بقرنٍ ونابٍ وهو محرم صائم، فوجد لذلك ضعفاً شديداً فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أن يحتجم الصائم)). [أخرجه أحمد في المسند، ١/ ٢٤٤، ٣٤٤]. ورواه أبو إسحاق الجوزجاني في (المُترجَم) وعن الحكم قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم فضعف، ثم كرهت الحجامة للصائم، وكان ابن عباس راوي حديثهم يُعِدُّ الحجَّامَ والمَحَاجِمَ فإذا غابت الشمس احتجم بالليل، كذلك رواه الجوزجاني، وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه، ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم فأفطر))، [المغني، ٤/ ٣٥١ - ٣٥٢، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف، ٧/ ٤١٩ - ٤٢٣].
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أصحاب القول الثاني، فقال: (( ... والأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) كثيرة، قد بينها الأئمة الحفاظ، وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان منهم من لايحتجم إلا بالليل، وكان أهل البصرة إذا دخل رمضان أغلقوا حوانيت الحجَّامين، والقول بأن الحجامة تفطر، مذهب أكثر فقهاء الحديث: كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن خزيمة، وابن المنذر، وغيرهم، وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ... )). ثم ذكر إحرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - في عُمَرِه الأربع وكلها في ذي القعدة وآخرها عمرته في حجِّهِ، فاحتجامه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صائم لم يبين في تلك الإحرامات، والذي يُقَوِّي أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة قوله: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) فإنه كان عام الفتح بلا ريب، هكذا في أجود الأحاديث، ثم ذكر رحمه الله تصحيح البخاري لحديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ثم قال: ((وقال: الترمذي سألت البخاري فقال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس، وحديث ثوبان، قلت [أي الترمذي] وما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن أبي الأشعث الحديثين جميعاً. قلت [أي ابن تيمية]: وهذا الذي ذكره البخاري من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما أبو قلابة - إلى أن قال -: ومما يقوِّي أن الناسخ هو الفطر بالحجامة: أن ذلك رواه عنه خواصّ أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضراً وسفراً، ويطلعون على باطن أمره، مثل: بلال، وعائشة، ومثل: أسامة وثوبان مولياه، ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته، مثل: رافع بن خديج، وشداد بن أوس ... )). ثم قال: (( ... وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض ... )) ثم بين رحمه الله إفطار الحاجم، فقال: ((وأما الحاجم؛ فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه، وهو لايشعر، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علَّق الحكم بالمظنة، - إلى أن قال-: ((وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتفٍ فيه فلا يفطر الشارط، وكذلك لو قُدِّر حاجم لايمص القارورة بل يمتص غيرها، أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر)). [مجموع فتاوى ابن تيمية، ٢٥/ ٢٥٢ - ٢٥٨ بتصرف وشرح العمدة له، ١/ ٤٥٦،٤٠٦ - ٤٥٦]. [ورجح ابن تيمية الفطر بالحجامة كذلك في كتابه: الصيام من شرح العمدة، ١/ ٤٠٦ - ٤٥٣. فذكر أنه يفطر الحاجم مع المحجوم؛ لأن الدلالة على فطرهما دلالة واحدة، ويلوح فيه أشياء:
أحدها: أن الحجامة لما لم تمكن إلا من اثنين جاز أن يجعل الشرع فعل أحدهما الذي لا يتم فطر الآخر إلا به فطراً، وأن يجعل تفطير الصائم فطراً .. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)). [أخرجه أحمد، ٤/ ١١٤ - ١١٦، و ٥/ ١٩٢، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وتقدم تخريجه].
فإذا كان المعين على صومه بعشائه بمنزلة الصائم، جاز أن يكون المفسد لصومه بمنزلة المفطر، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جهز غازياً فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)). [متفق عليه: البخاري في الجهاد، برقم ١٠٤٥، ومسلم في الإمارة، برقم ١٥٠٧]. وضد ذلك من صد عن سبيل الله بالتثبيط عن الجهاد؛ فإنه بمنزلة المحارب لله ولرسوله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادّ الله [في أمره]، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)). [أبو داود، برقم ٣٥٩٧، وأحمد، ٢/ ٧٠، وما بين المعقوفين من لفظ أحمد، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٣٩٦].
وقال: ((ومنها أن الحاجم إذا امتصّ المحجم بعد شرط العضو جاز أن يسبق شيء من الدم إلى حلقه ... )). وتقدم [شرح العمدة، ١/ ٤٠٦ - ٤٥٥].
وسمعت شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم ٢١٣٢: ((احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم)) [البخاري، برقم ١٩٣٨] قال: ((أما حديث ابن عباس فمحمول على أنه كان قبل ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الاستدلال بهذا الحديث إلا بأربعة أمور:
١ - أن يكون هذا بعد النهي عن الحجامة للصائم ولاسبيل إلى ذلك.
٢ - أن يكون الصوم فرضاً ولاسبيل إلى ذلك.
٣ - أن يكون ذلك في الحضر لا في السفر.
٤ - أن يكون ذلك في حال الصحة لا في المرض. أما حديث أنس [وهو قوله: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -،فقال: ((أفطر هذان))،ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم)) فهو من اجتهاده - رضي الله عنه -، والصواب أن الحجامة تفطر الصائم فينبغي اجتنابها)). انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخنا ابن باز أيضاً في تعليقه على بلوغ المرام على نسخته الخاصة على حديث ابن عباس: ((احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم)) [البخاري، برقم ١٩٣٨] قال رحمه الله: ((وأخرجه أحمد، [١/ ٣٤٤] بإسناد جيد، بلفظ: أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم بالقاحة، وهو صائم)) قال: والقاحة موضع على ثلاث مراحل من المدينة، وهذه الرواية صريحة في أن احتجامه كان في حال السفر، والمسافر له أن يفطر بالحجامة وغيرها)). [بلوغ المرام، الحديث رقم ٦٣٥، نسخة تعليق ابن باز على نسخته، وهي مطبوعة، ص٤١٠].
قلت: وقد تتبعت ألفاظ حديث ابن عباس عند البخاري: ((احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم))
[البخاري، برقم،١٨٣٥]،وفي لفظ: ((احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم)). [برقم ١٩٣٨]، وفي لفظ: ((احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم)) [برقم ١٩٣٩]، وفي لفظ: ((احتجم في رأسه)) [برقم ٥٦٩٩]، وفي لفظ: ((احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - في رأسه وهو محرم من وجع كان به، بماء يقال له لحي جمل)). [برقم ٥٧٠٠]، وفي لفظ: ((احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به)) [برقم ٥٧٠١]، وفي حديث ابن بحينة: ((احتجم بلحي جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه)) [برقم ٥٦٩٨]. قال ياقوت الحموي في معجم البلدان، ٥/ ١٥: ((احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلحي جمل)) ((لحي جمل)) موضع بين مكة والمدينة، هي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا)). وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث ٤/ ٢٤٣: ((لحي جمل)) موضع بين مكة والمدينة، وقيل عقبة، وقيل: ماء)). وهذا يؤيد أن احتجامه - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم كان في السفر والمسافر له أن يفطر بالحجامة وغيرها، والله تعالى أعلم.

<<  <   >  >>