وأما الثاني- قلنا: الله تعالى أخبر أنه جعلهم عدولاً لغرض أن يشهدوا وتقبل شهادتهم، وإخبارهم بإيجاب الشارع لا يفتقر إلى ذلك، فإن الأمة بأسرهم إذا أخبروا عن شيء على سبيل التواتر يحصل العلم به، وإن لم يكونوا عدولاً في ذلك. ولا يجوز أن يكون الغرض من جعلهم عدولاً أن يخبروا بالآحاد لا بالتواتر، لأن كل واحد بالانفراد ليس بعدل، ولا يقبل قوله، فثبت أن المراد شهادتهم على حكم حادثة وإجماعهم أنه من الدين.
وأما الثالث- قلنا: ليس المراد منه القسم الأول، لما ذكرنا. وليس المراد منه القسم الثاني أيضاً. لأنه لا سبيل إلى العلم به، والله تعالى طلب منهم الشهادة، وذلك يقتضى وجوب قبول قولهم علينا، ولا يجوز أن يقف وجوب قبول قولهم علينا على ما لا سبيل له إلى العلم به، فكان المراد به عصر الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه، لأن الإجماع حال حياته لا يعتد به، إنما الاعتداد بتوفيقه وتقريره. وكان الإجماع المعتد به الإجماع بعد وفاته عليه السلام. والله أعلم.
(ب) - دليل آخر- قوله تعالى:[وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ]: دلت الآية على قبح إتباع غير سبيل المؤمنين، فدلت على وجوب إتباعه، لأنه لا يمكن التحرز عن هذا القبيح إلا به، فوجب القول بقبوله، وما أجمعوا عليه من الحكم صار سبيلاً لهم، فيجب إتباعهم فيه، ولا يجوز مخالفتهم، لأن في مخالفتهم إتباع غير سبيلهم. وإنما قلنا: إن الآية دلت على قبح إتباع غير سبيل المؤمنين، لأن الله تعالى جمع بين إتباع غير سبيل المؤمنين وبين مشاقة النبي عليه السلام في لحوق الوعيد، ولا يجوز من الحكيم الجمع بين المباح والمحظور في إلحاق الوعيد-