قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون "وفى سورة ق: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا " فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها "من " فيسأل عن وجه زيادتها فى الآى الثلاث الأول وسقوطها فى هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن "من " إنما تزاد فى هذه الآى حيث يراد تأكيده ضمن الآى من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا فى أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد فى هذه الآى ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين فى أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم فى اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد فى الآى الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات فى هذا الحرف ثم نقول: أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: "الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور "، وقد كانوا يعترفون بأنه تعالى الخالق "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ثم تتابع ما بعد على هذا إلى قوله "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " على بيان الأمر ووضوحه ثم قال "فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " فحصل التسجيل ببقائهم على اظفعراض وإنفاذ الوعيد عليهم ولا أشد من هذا ونحوع بل مثله فى الشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد قوله تعالى فى سورة السجدة "ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها " فاكتنف الآية ما تضمنته الآيتان من الوعيد والتهديد فناسب ذلك ما اقتضته زيادة "من " من مناسبة التأكيد فقيل "ومن قبلهم " وأما آية ص فحسبك ما تضمنته من أولها إلى قوله "وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " ثم قال تعالى مخبرا عن حالهم فى تكذيبهم واستبعادهم "عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " ولعظيم تمردهم ووعيدهم المحكى عنهم فى هذه الآى ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر فى قوله تعالى "اصبر على ما يقولون " ثم أعقب تعالى بقصة داود عليه السلام أعلاما لنبيه بأن ذلك مراده منهم بما قدر لهم فى الأزل فقد سخر الجبال والطير لداود
وألان له الحديد فلو شاء لهدى هؤلاء فلعظيم ما ورد فى هذه الآى