هذا الإدراك العاقل من الحيوان وغير العاقل وأما العلم فلا يكون إلا عن فكر ونظر يحصله، وقد تكون مقدماته حسية أو غير حسية على قول المحققين من أرباب النظر فهو مما يخص العقلاء ولما كان الإيمان وهو التصديق لا يحصل إلا عن نظر وفكر يحصل العلم بالمصدق به، ولا يكون النظر والفكر إلا من عاقل يعرف الصواب من الخطإ وقد نفى المنافقون ذلك عن المؤمنين ونسبوهم إلى السفه وهو خفة الحلم وعدم التثبت فى الأمور وذلك فى قولهم:"أنؤمن كما آمن السفهاء " فرد الله ذلك عليهم بقوله: "ألا إنهم هم السفهاء " ونفى عنهم العلم فنفى عنهم ما نفوه عن غيرهم ووصفوا بما نسبوه لغيرهم ولما كان الفساد فى الأرض وروم مخادعة من لا ينخدع منتحل لا يخفى فساده على أحد ويوصل إلى ذلك بأول إدراك ناسبه أيضاً نفى الشعور ولم يكن ليناسبه نفى العلم فجاء كل على ما يناسب ويلائم.
وتعرض أبو الفضل بن الخطيب لما ورد فى هذه الآية فقال: إنما قال فى آخر هذه الآية "لا يعلمون " وفيما قبلها "لا يشعرون " لوجهين: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلى نظرى وأما أن النفاق وما فيه من البغى يقضى إلى الفساد فى الأرض فضرورى جار مجرى المحسوس
والثانى أنه لما ذكر السفه وهو جهل كان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم انتهى، وما ذكرته أجرى مع لفظ الآي وأبين.
الآية الرابعة:
قوله تعالى:"وتركهم فى ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون " وورد فيما بعد: "ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون " ففى الأولى "لا يرجعون " وفى الثانية "لا يعقلون " مع اتحاد الأوصاف الواردة مورد التسبب والعلة فيما نسب لهم.
والجواب عنه: أنه لما مثل حال المنافقين بحال مستوقد النار لطلب الإضاءة وأنه لما أضاءت ما حولها أذهبها الله وطفيت فلم يكن له ما يستضئ به ويرجع إليه فنفى عنهم وجود ما يرجعون إليه من ضياء يدفع حيرتهم وهذا بين.
أما الآية الثانية فإنه مثل حال الكافرين فيها بحال الغنم فى كونها يصاح بها وتنادى فلا تفهم عن راعيها ولا تسمع إلا صوتاً لا تعقل معناه ولا نفهم ما يراد به كذلك الكفار