فيما هو منها ومرتبط بمعناها:((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(فاطر: ٤٤) فأخذتهم يا محمد بتكذيبهم وكفرهم، ولم يفت منهم أحد لأني عليم بأحوالهم القدير الذي لا يعجز في شيء ولا يفوتني هارب، وتأمل التحام هذا كله وتناسبه وكيف تم الاختبار وكمل انتهاء وابتداء، وتأمل كيف وقع الاكتفاء في آية الاعتبار بالإيمان إلى أخذهم بقوله:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)(فاطر: ٤٤) إحالة على ما تقدم في إخبار نبيه، عليه السلام، بأخذهم في قوله:(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(فاطر: ٢٦)، والتحم هذا كله وتناسب.
وأما الآية الأولى من سورة غافر فوردت على الجمع بين التنبيه للاعتبار بمن تقدم وبين أخذهم، ولم يرد فيها التفصيل الوارد فيما تقدم، فقال تعالى:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)(غافر: ٢١)، ثم اتبع الآية بما يؤكد أخذهم، وذكرت العلة في ذلك من كفرهم، واجتمع في هذه الآية ما افترق في غيرها فقال تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(غافر: ٢٢)، فتحصل منها التعريف بأخذهم وذكر العلة الموجبة لذلك من تكذيبهم وكفرهم متصلاً ذلك كله بعضه ببعض، ولم تجر هذه الآية في التلطف في الدعاء والتنبيه على ما جرت نظائرها مما تقدم ونبه عليه، وسبب ذلك أنه تقدم في أول هذه السروة من الإخبار بسوء مراجعتهم وقبيح معاملتهم مع أنبيائهم ما يوجب سريع الأخذ وينافر التلطف، وذلك قوله تعالى:(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(غافر: ٥)، فلما تقدم هذا من جوابهم بالباطل وما هموا به من أخذ رسلهم وامتحانهم زائداً إلى التكذيب ناسب هذا تعجيل أخذهم، فوردت آية التنبيه على ذلك، ولهذا اختصت من التأكد ما لم يرد مثله فيما تقدمها:(كَانُوا هُمْ أَشَدَّ)، فوكد بالضمير تخصيصاً وتعييناً للمذكورين قبل من قوم نوح والأحزاب، ثم اتبع ذلك بقوله في قراءة ابن عامر بتخصيص من وعظ بذلك وخوطب فقيل:(منكم)، فتقابل التأكيد في الطرفين تأكيداً يناسب ما بنيت عليه الآية ويشهد له، ولرعي ما تقدم من السبب الأول وردت الآية الأخيرة من قوله في آخر السورة:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... )(غافر: ٨٢) إلى قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر: ٨٢)، ثم أعقب هذا بقوله:(لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(غافر: ٨٣) إشارة إلى ما كانوا يظنونه علماً ويجادلون به من قولهم: