بينهما وأحكم فلا يلتقيان التقاء يعود بعدم المنفعة على العباد، وأخرج منها اللؤلؤ والمرجان. وأجرى فيهما السفن بإجراء الرياح، وأقام على الجميع دلائل الافتقار والحدوث، وحكم عليهم بالفناء والعجز:(هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)(الروم: ٤٠)، وما من معتبر من هذه إلا كان في مشاهدته مفصحاً بلسان حاله:(فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: ٢٢)، فلو اعتبر أولئك الأمم ببعض المنصوبات للاعتبار من المنبه عليه في سورة الرحمن لدلهم ذلك على الصانع الذي ليس كمثله شيء، ولنبذوا معبوداتهم من دونه جل وتعالى وأجابوا الرسل فلم يهلكوا، ولكنهم انحرفوا عن ميدان الإنصاف فكذبوا فهلكوا، فلبناء السورة على هذا اختصت بذكر الميزان مكرراً مؤكداً على ما وقع فيها. ولما لم ترد هذه الأغراض في غير هذه السورة مبنية على ما تقدمها في السورة قبلها من أخذ المكذبين على الصفة الواردة فيها، وانفردت هي بما قدم؟، كانت مظنة الاعتناء بما ينسحب على كل طرق السلامة في كل عمل، وهو العدل الذي به قوام المخلوقات، والوزن بالقسط الذي تستوضح كل نفس في القيامة (به) ما لها وعليها، ولم تكن غير هذه السورة لتكون أولى بذكر ذلك فيها منها، والله أعلم.
الآية الثانية من سورة الرحمن قوله تعالى:(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: ١٣)، للسائل أن يسأل عن وجه تكرار هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ما وجه ذلك؟ وهل لتخصيص هذا العدد سبب موجب؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنه افتتح سبحانه السورة بذكر ضروب من النعم تجل عن الإحاطة بوصفها، ويعجز العارفون عن شكرها، وكلها دلائل للمعتبر واضحة، وشواهد قاطعة بانفراده سبحانه بالخلق والاقتراع والإنشاء والإبداع، فقال تعالى:(الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)(الرحمن: ١ - ٢)، وخص سبحانه من أسمائه:(الرحمن) مناسبة لما رحم به عباده، فبدأ سبحانه بتعليمه القرآن، ولا نعمة أعظم من ذلك إذ بتعليمه البيان المتوصل به إلى الإبانة عما في نفسه واستيضاح ما انبهم عليه وإيضاح ذلك لغيره، وبخ يعرف قدر النعمة بالقرآن، ثم أردف فذكر نعمة الشمس والقمر، ونبه تعالى على جريهما في بروجهما بحسبان ولما يدرك العالم من منافعهما إنضاجاً وتيبيساً وإضاءة وحسباناً:(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)(الإسراء: ١٢) ثم قال تعالى تحريكاً للمعتبرين وإيقاظاً للمتفكرين: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)(الرحمن: ٦)، والنجم ما نجم من النبات وارتفع عن أرضه، ثم قال:(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا)(الرحمن: ٧)، فأشار إلى جعلها سقفاً محفوظاً من