للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك تمثيل في الصحابة، وهذا تمثيل في التابعين، وكلاهما بالحقيقة جزء من الدليل الثاني.

قوله: "وهذا أبو عثمان النهديّ، وأبو رافع الصائغ، وهما ممن أدرك الجاهلية، وصحبا أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ... " الفصل إلى قوله: "فكل هؤلاء من التابعين الذين نَصَبْنَا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم، لم يُحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها، ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه ... الكلام إلى آخره الذي اشتد فيه بالإنكار على قائله، وحَمَلَ عليه أشدَّ الحمل، ولعله لم يَعلَم أنه قولُ ابن المديني والبخاري، وكأنه إنما تكلم مع بعض أقرانه أو من دونه، ممن قال بذلك المذهب -والله أعلم- فإنه لو علمه لكَفّ من غَرْبه (١)، وخَفَضَ لهما الْجَنَاح، ولم يَسِمْهما الكِفَاح (٢).

وحاصل هذا الدليل الرابع ادِّعاء الإجماع أيضا على قبول أحاديث التابعين الثقات السالمين من وصمة التدليس، إذا عنعنوا عن الصحابة الذين ثبتت معاصرتهم لهم، وإن لم يُعلَم اللقاء ولا السماع، كما أُصِّلَ ذلك في أحاديث الصحابة -رضي الله عنهم-.

قال: ولنا عن هذا الدليل أجوبة ثلاثة:

(الأول): نقض الإجماع بما تقدم من نقل ذلك عمن عُلِمَ.

(الثاني): أن هؤلاء الذين سَمَّيتَ ممن عُلِم سماعُ بعضهم من بعض عند من أثبت صحة حديثهم، ألا ترى أن أبا الحسن علي بن المديني قد قال في "كتاب التاريخ" له: أبو عثمان النهديُّ عبد الرحمن بن مَلّ، وكان جاهليّا ثقةً، لَقِيَ عمر، وابن مسعود، وأبا بكرة، وسعدًا، وأسامة، ورَوَى عن علي، وأبي موسى، وعن أبي بن كعب، وقال في بعض حديثه: حدثني أبي بن كعب، وقد أدرك النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى.

فقد نَصّ عليٌّ أنه يقول في بعض حديثه: حدّثني أبي بن كعب، فمنه ما اطلعنا عليه، ومنه ما لم نَطَّلِع عليه حسبما نُبَيّن -إن شاء الله تعالى-.

(الثالث): أن هذه أمثلة خاصة لا عامة، جزئية لا كلية، يمكن أن تَقتَرن بها قرائن تُفهِم اللقاء أو السماع، كمن سَمَّيتَ ممن أدرك الجاهلية، ثم أسلم بعد موت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وصَحِبَ البدريين فمن بعدهم، فهذا يَبْعُد فيه ألا يكون سمع ممن رَوَى عنه، وإن جَوّزنا أنه لم يسمع منه، قلنا: الظاهر روايته عن الصحابة، والإرسالُ لا يَضُرّه، كما قدّمنا من الجواب عن الدليل الثالث.


(١) الغرب بفتح، فسكون من معانيه في "القاموس": حدّ الشيء، والْحِدّة، والنشاط.
(٢) أي لم يذقهما المواجهة الشديدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>