للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على أن الإمام الحافظ أبا حاتم البستِيّ قد طَرَدَ هذا الحكم فيمن تحقق منه أنه لا يرسل إلا عن ثقة.

قال رَحِمَهُ اللهُ: وأما المدلسون الذين هم ثقات عدول، فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بَيَّنُوا السماع فيما رووا، مثل الثوري، والأعمش، وأبي إسحاق، وأضرابهم من الأئمة المتقنين، وأهل الورع في الدين؛ لأنا متى قبلنا خبر مُدَلِّس لم يُبَيِّن السماع فيه، وإن كان ثقة لَزِمَنا قبولُ المقاطيع والمراسيل كلها؛ لأنه لا يُدرَى لعل هذا المدلس دَلّس هذا الخبر عن ضعيف، يَهِي الخبرُ بذكره إذا عُرِف.

اللهم إلا أن يكون المدلس يُعلَم أنه ما دَلّس قط إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قُبِلت روايته، وإن لم يُبَيّن السماع، وهذا شيء ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يُدَلّس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وُجِد ذلك الخبر بعينه قد بَيَّنَ سماعه فيه عن ثقة، فالحكم في قبول روايته لهذه العلة، وإن لم يُبَيِّن السماع فيها، كالحكم في رواية ابن عباس إذا رَوَى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما لم يَسمَع منه. انتهى ما قاله أبو حاتم (١).

فهذه الأمثلة التي أتيتَ بها أيُّها الإمام كلُّها جزئيات، والحكم على الكليات بحكم الجزئيات لا يَطَّرد، فقد يكون لكل حديث حكمٌ يخصه، فَيُطَّلَع فيه على ما يُفهِمُ اللقاء أو السماع (٢)، ويُثِير ظنّا خاصّا في صحة ذلك الحديث، فَيُصَحَّح اعتمادًا على ذلك، لا من مجرد العنعنة.

ومثل هذا أيُّها الإمام لا تقدر على إنكاره، وقد فَعَلتَ في كتابك مثله من رَعْيِ الاعتبار بالمتابعات والشواهد، وذلك مشهور عند أهل الصنعة، فيُتْبِعُون ويستشهدون بمن لا يُحْتَمَلُ انفرادُهُ، ومثل ذلك لا يُنكَر في الفقه وأصوله.

وقد فعلتَ أنت أيُّها الإمام ما هو أشد من ذلك في كتابك "المسند الصحيح" حيث أدخلتَ فيه أَسْبَاط بن نصر، وقَطَنَ بن نُسَير، وأحمد بن عيسى المصري، فاعتَرَض فعلك أبو زرعة الرازي، وأنكر عليك، فاعتذرت حين بلغك إنكاره، فيما ذكره الحافظ الثقة الإمام أبو بكر الْبَرْقانيّ، عن الحسين بن يعقوب الفقيه، قال: نا أحمد بن طاهر الميانجي، نا أبو عثمان سعيد بن عمرو، قال: شَهِدتُ أبا زرعة الرازي، وذَكَرَ قصةً فيها طول اختصرتها، قال فيها: وأتاه ذات يوم رجل بكتاب "الصحيح" لمسلم،


(١) راجع "الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" ١/ ١٦١.
(٢) الأولى "والسماع" بالواو؛ لأن الراجح اشتراط السماع، كما مرّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>