للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التحريم لِمَا كان حلالًا، وهو يمكنه أن يسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شِفاهًا، وأكّد ذلك القبولَ بإتلاف الإناء، وما فيه، وهو مالٌ، وما كان لِيُقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيد خبره العلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه، فقام خبر ذلك الآتي عنده، وعند من معه مقام السماع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحيث لم يشكّوا، ولم يرتابوا في حدقه، والمتكلّفون يقولون: إن مثل ذلك الخبر لا يفيد العلم لا بقرينة، ولا بغير قرينة.

(الدليل التاسع عشر): أن خبر الواحد لو لم يُفد العلم لم يُثْبِت به الصحابة التحليل والتحريم، والإباحة، والفروض، ويجعل ذلك دينًا يُدان به في الأرض إلى آخر الدهر، فهذا الصدّيق -رضي الله عنه- زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدّة، وجعله شريعةً مستمرّةً إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة فقط، وجعل حكم الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نصّ القرآن في إثبات فرض الأمّ، ثم اتّفق الصحابة، والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد. وأثبت عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- بخبر حَمَل بن مالك دية الجنين وجعلها فرضًا لازمًا للأمة. وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحّاك بن سفيان الكلابيّ وحده، وصار ذلك شرعًا مستمرّا إلى يوم القيامة. وأثبت شريعة عامّةً في حقّ المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وحده. وأثبت عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- شريعةً عامّةً في سكنى المتوفّى عنها زوجها بخبر فُريعة بنت مالك وحدها. وهذا أكثر من أن يُذكَر، بل هو إجماعٌ معلوم منهم. ولا يقال على هذا: إنما يدلّ على العمل بخبر الواحد في الظنّيّات، ونحن لا ننكر ذلك؛ لأنا قد قدّمنا أنهم أجمعوا على قبوله، والعمل بموجبه، ولو جاز أن يكون كذبًا، أو غلطًا في نفس الأمر، لكانت مجمعةً على قبول الخطإ، والعمل به، وهذا قدح في الدين والأمّة.

(الدليل العشرون): أن الرّسُل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقبلون خبر الواحد، ويقطعون بمضمونه، فقبله موسى عَلَيْهِ السَّلَامْ من الذي جاء من أقصى المدينة قائلًا له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، فجزم بخبره، وخرج هاربًا من المدينة. وقبِلَ خبر بنت صاحب مدين لَمّا قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}. وقبِلَ خبر أبيها في قوله: هذه ابنتي، وتزوّجها بخبره. وقبِل يوسف الصدّيق عَلَيْهِ السَّلَامْ خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك، وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ}. وقبل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خبر الآحاد الذين كانوا يُخبرونه بنقض عهد المعاهدين له، وغزاهم بخبرهم، واستباح دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريّهم. ورسُلُ الله صلوات الله وسلامه عليهم لم يرتّبوا على تلك الأخبار أحكامها، وهم يُجوّزون أن تكون كذبًا وغلطًا، وكذلك الأمة لم تُثبت الشرائع العامّة الكليّة بأخبار الآحاد، وهم يجوّزون أن يكون كذبًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

<<  <  ج: ص:  >  >>