للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه بخبر الواحد. ترى أصحاب القدر يستدلّون بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كلّ مولودٌ يولد على الفطرة"، وبقوله: "خلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم". وترى أهل الإرجاء يستدلّون بقوله: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنّة"، قيل: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: "وإن زنى، وإن سرق". وترى الرافضة يحتجّون بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يُجاء بقوم من أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم". وترى الخوارج يستدلّون بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر"، وبقوله: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدلّ بها أهل الفرق، ومشهورٌ معلوم استدلال أهل السنّة بالأحاديث، ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدّموهم ومتأخّروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصول الإيمان، والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحّدين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنّة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفي فضائل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومناقب أصحابه، وأخبار الأنبياء المتقدّمين وأخبار الرقاق، وغيرها مما يكثر ذكره، وهذه الأشياء علميّة، لا عمليّة، وإنما تُروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا: خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطإ، وجعلناهم لاغين، هازلين، مشتغلين بما لا يفيد أحدًا شيئًا، ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دوّنوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه، والاعتماد عليه. قال: وربّما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا، فإن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أدَّى هذا الدين إلى الواحد، فالواحد من الصحابة يؤدّيه إلى الأمة، وينقله عنه، فإذا لم يُقبل قول الراوي؛ لأنه واحد، رجع هذا العيب إلى المؤدّي -نعوذ بالله من هذا القول البشيع والاعتقاد القبيح- قال: ويدل عليه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعث الرسلَ إلى الملوك إلى كسرى، وقيصر، وملك الإسكندرية، وإلى أُكيدر دُومة، وغيرهم من ملوك الأطراف، وكَتَبَ إليهم كتبًا على ما عرف، ونقل، واشتهر، وإنما بعث واحدًا واحدًا، ودعاهم إلى الله تعالى، والتصديق برسالته -صلى الله عليه وسلم- لإلزام الحجة، وقطع العذر؛ لقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وهذه المعاني لا تحصلُ إلا بعد وقوع العلم ممن أرسل إليه بالإرسال والمرسل، وأن الكتاب من قِبَله، والدعوة منه، وقد كان نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الناس كافّةً كثيرًا من الرسل إلى هؤلاء الملوك، والكتاب إليهم لبَثَّ الدعوة إليهم في جميع الممالك، ودعا الناس إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة في هذا الأمر، وكذلك في أمور كثيرة، اكتفى بإرسال الواحد من الصحابة:

<<  <  ج: ص:  >  >>