للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن اتّفق أن يكون المرسِل لا يروي إلا عن ثقة فالتوثيق مع الإبهام غير كاف، كما سبق بيانه، ولأنه إذا كان المجهول المسمّى لا يُقبل حتى يوثّق، فالمجهول عينًا وحالًا أولى. أفاده في "التدريب" (١).

وذهب جماعة إلى أنه حجة، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك في المشهور عنه، وجمهور أتباعهما، وأحمد في رواية عنه، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن كثير من الفقهاء، أو أكثرهم، قال: ونقله الغزاليّ عن الجماهير، وقال أبو داود في "رسالته": وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجّون بها فيما مضى، مثل سفيان الثوريّ، ومالك، والأوزاعيّ، حتى جاء الشافعيّ رَحِمَهُ اللهُ، فتكلّم في ذلك، وتابعه عليه أحمد وغيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول أبي داود رَحِمَهُ اللهُ تعالى: "حتى جاء الشافعيّ الخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه نُقل عن سعيد المسيب ردّه، وكذا عن مالك في رواية عنه، وبما نقل عن الزهريّ، وابن سيرين، وكلهم قبل الشافعيّ، وكذا عن ابن مهديّ، ويحيى القطّان، إلا أن يقال: إن اختصاص الشافعيّ به لمزيد التحقيق فيه. والله تعالى أعلم.

ثم إن قبوله مشروط -كما قال ابن عبد البرّ وغيره- بما إذا لم يكن الْمُرسِل ممن لا يحترز، ويُرسل عن غير الثقات، وإلا فلا خلاف في ردّه. قاله النوويّ في "شرح المهذّب". وقال غيره: محلّ قبوله عند الحنفيّة إذا كان مرسله من أهل القرون الثلاثة المفضّلة، فإن كان من غيرها فلا؛ لحديث: "ثم يفشوا الكذب ... " الحديث (٢).

ثم إن المحتجّين به اختلفوا هل هو أعلى من المسند، أو دونه، أو مثله، وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض، والذي ذهب إليه أحمد، وأكثر المالكيّة، والمحقّقون من الحنفيّة، كالطحاويِّ، وأبي بكر الرازيّ تقديم المسند، قال ابن عبد البرّ: وشبّهوا ذلك بالشهود يكون بعضهم أفضل حالًا من بعض، وأقعد، وأتمّ معرفةً، وإن كان الكلّ عُدولًا جائزي الشهادة. انتهى.

وذهب آخرون إلى أنه أعلى وأرجح من المسند، ووجّهوا ذلك بأن من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد تكفّل لك.

والمعنى: أن من ذكر إسناد الحديث، فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال


(١) "تدريب الراوي" ١/ ١٧٠.
(٢) حديث صحيح أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (١٠٩) والترمذيّ في "جامعه" (٢٠٩١) من حديث عمر -رضي الله عنه-.

<<  <  ج: ص:  >  >>