الفصل الثاني
فيما لم يقع فيه توارد
فمن ذلك ما ذكره صاحب العقد والعهدة عليه
قال: بينما الأمير محمد بن زبيدة يطوف في قصره إذ بصر بجارية له سكرى، وعليها كساء خز نسجت أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على ما ترى، ولكن في غدٍ إن شاء الله. فلما كان من الغد سار إليها، فقال لها: الميعاد! فقالت: يا أمير المؤمنين؛ أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك ثم خرج إلى مجلسه، فقال: من بالباب من الشعراء؟ فقيل له: مصعب والرقاشي والحسن بن هانئ، فأمر بهم فأدخلوا؛ فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل منكم شعرا يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار؛ فمن أصاب ما في نفسي فله حكمه؛ فارتجل الرقاشي:
متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صبا مستهاماً ... فتاة لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد قالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:
أتعذلني وقلبي مستطار ... كئيب ما يقر له قرار!
بحب مليحةٍ صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار
ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
فقلت لها عديني منك وعداً ... فقالت في غدٍ منك المزار
فلما جئت مقتضياً أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وليلة أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التكريه وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال: أخزاك الله! أكنت معنا مطلعا علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عرفت ما في نفسك فعبرت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف دينار، ولصاحبيه بمثليهما.
[ومن ذلك ما أخبرني الفقيه أبو الحسن علي بن فاضل بن حمدون الصوري]
عن الإمام الحافظ أبي طاهر السلفي رحمه الله، عن أبي غالب شجاع الذهلي، قال لنا أبو منصور بن أبي الضوء العلوي: كنت في قريةٍ يقال لها بشيناء، وبها أبو محمد النامي، وهناك ناعورتان للزرع، فقال فيها وأنا حاضر:
أنا عورتي شطى بشيناء إنني ... نظير كما في الوجد والهيمان
أنينكما يحكى أنيني وعبرتي ... كمائكما في شدة الجريان
فلا زلتما في خفض عيش يمده ... أمان من التفريق والحدثان
وعملت أنا في الحال:
بشيني لها ناعورتان كلاهما ... تسح بدمعٍ دائم الهملان
مخافة دهرٍ أن يصيب بعينه ... لإحداهما يوماً فيفترقان
[وذكر أبو علي بن رشيق في كتاب الأنموذج]
قال: كان لمحمد بن حبيب التنوخي معشوق لا يزال يزوره إذا غاب عن منزله، فإذا حضر لم يأته؛ وكثر ذلك منهما، فقال لي يوماً: تعال حتى نضع في ذلك، فصنعت:
ما بالنا نجفى فلا نوصل ... إلا خلافاً مثلما تفعل
تأتي إذا غبنا فإن لم نغب ... جعلت لا تأتي ولا تسأل
كهاجرٍ أحبابه زائرٍ ... أطلالهم من بعد أن يرحلوا
وصنع هو:
يا تاركاً إن لم أغب زورتي ... وزائري دأباً إذا غبت
وددت أن ودك لا ينثني ... يزور فقداني لم مت
قال علي بن ظافر: وذكرت بهاتين القطعتين قول ابن خفاجة الأندلسي في مثل هذه الواقعة، وهو أحسن ما سمعت فيها:
صح الهوى منك ولكنني ... أعجب من بينٍ لنا يقدر
كأننا في فلك دائرٍ ... فأنت تخفى وأنا أظهر
[قال ابن رشيق]
وكان كثيراً ما ينتابني غلام وضيء الوجه، وخال تحت لحيته، فنظر إليه يوماً بعض أصحابي، ثم أطرق، فعلمت أنه يعمل فيه، فصنعت بيتين وسكت عنهما خوف الوقوع دونه، فلما رفع رأسه قال: اسمع، وأنشد:
يقولون لي من تحت صفحة خده ... تنزل خال كان مسكنه الخد