[وقد أفضى الحال إلى ذكر خبر الكسعي الذي تمثل به الفرزدق في الندامة]
إذ الحديث شجون، واللسان غير مسجون، وهو أنه خرج يرعى إبلاً له في واد فيه حمض وشوحط، فرأى قضيب شوحطٍ نابتاً في صخرة صماء ملساء، فقال: نعم منبت العود، في قرار الجلمود. ثم أخذ سقاءه فصب ما كان فيه من ماء في أصله، فشربه لشدة ظمئه، وجعل يتعاهده بالماء سنة حتى سبط العود وبسق واعتدل فقطعه، وجعل يقومه، ويقوم أوده حتى صلح، فبراه قوساً وهو يرتجز، ويقول:
أدعوك فاسمع يا إلهي جرسي يارب سددني لنحت قوسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... فإنها من لذتي لنفسي
أنحتها صفراء لون الورس ... صلداء ليست كقسى النكس
ثم يرى بقيته خمسة أسهم وهو يرتجز، ويقول:
هن لعمري خمسة حسان ... يلذ للرامي بها البنان
كأنما قومها ميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
إن لم يعقني الشؤم والحرمان ... أو يرمني بكيده الشيطان
ثم أخذ قوسه وأسهمه، وخرج إلى مكمن كان مورداً لحمرٍ في الوادي، فوارى شخصه حتى إذا وردت رمى عيراً منها بسهم، فمرق منه بعد أن أنقذه، وضرب صخرة فقدح منها ناراً، فظن أنه قد اخطأ، فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمن ... من نكد الجد معاً والحرمان
مالي رأيت السهم فوق الصفوان ... يرمي شراراً مثل لون العقيان
فأخلف اليوم رجاء الصبيان
ثم وردت حمر أخرى فرمى عيراً فصنع سهمه كالأول وظنه أخطأ، فقال:
أعوذ بالرحمن من شر القدر ... أأخطأ السهم لإرهاف الوتر
أم ذاك من سوء احتيال ونظر ... وإنني عهدي لرام ذو ظفر
مطعم بالصيد في طول الدهر
ثم وردت حمر أخرى، فرمى عيراً منها بسهم ففعل سهمه كالأول، وظنه أخطأ فقال:
يا حسرتا للشؤم والجد النكد ... قد شفني القوت لأهلي والولد
والله ما خلقت في ذاك العمد ... لصعبتي من سبدٍ ولا لبد
أذهب بالحرمان مع طول الأمد