الخطاب بن دحية إجازة، قال: صاحبت في دهري من الغرب سنة ثلاث وثمانين أبا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد، وكان أبو حفص بن رشيق يومئذ قد تمنع ببعض حصون مرسية، وشرع في الشقاق، وقطع السبيل وإخافة الطريق. ولما حاذينا قلعته وقسد احتدمت جمرة الهجير، ومل الراكب رسيمه وذميله، فأخذ كل منا يرتاد مقيله، اتفقنا على ألا نطعم طعاماً، ولا نذوق مناماً، حتى نقول في صورة تلك الحال، وذلك الترحال، ما حضر، وشاء الله أن أجبل ابن وهبون فاعتذر، فقلت أريض نار نزوته، وأعرض بعظيم لحيته:
ألا قل للمريض القلب مهلاً ... فإن السيف قد ضمن الشفاء
ولم أر كالنفاق شكاة حر ... ولا كدم الوريد له دواء
وقد دحى النجيع هناك أرضاً ... وقد سمك العجاج به سماء
وديس به انحطاطاً بطن وادٍ ... قد اعشب شعر لحيته ضراء
[وقال ابن خفاجة]
وحضرت يوماً مع أصحاب لي، ومعهم صبي متهم في نفسه، واتفق أنهم تباروا في تفضيل الرمان على العنب، فانبرى ذلك الصبي، فأفرط في تفضيل العنب، فقلت بديهاً أعبث به:
صلني لك الخير برمانةٍ ... لم تنتقل عن كرم العهد
لا عنباً أمتص عنقوده ... ثديا كأني بعد في المهد
وهل ترى بينهما نسبةً ... من عدل الخصية بالنهد!
فخجل خجلا شديداً وانصرف.
قال وخرجت يوماً بشاطبة إلى باب السمارين
ابتغاء الفرجة على خرير الماء بتلك الساقية، وذلك سنة ثمانين وأربعمائة، وإذا بالفقيه أبي عمران بن أبي تليد - رحمه الله قد سبقني إلى ذلك، فألفيته جالساً على مصطبة دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن، فسلمت عليه وجلست إليه متأنساً به، فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق:
يا من يمر ولا تمر به القلوب من الحرق
بعمامةٍ من خده ... أو خده منها استرق
فكأنه وكأنها ... قمر تعمم بالشفق
فإذا بدا وإذا انثنى ... وإذا رنا وإذا نطق
شغل الخواطر والجوا ... رح والمسامع والحدق