وأخبرني بعض أصحابنا، أن أبا القاسم ابن هانئ الشاعر المحدث، قد هجا الأجل الموفق أبا الحجاج يوسف بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات، هجاءً اتصل به، فأضمر له الحقد بسببه مع إفراط جلالة الرجل، وفرط رياسته، وحسن معاشرته للناس وسياسته. واتفق بعض المواسم التي جرت عادة ملوك مصر بالجلوس فيها لاستماع المدائح وبذل المنائح، وزف بنات القرائح، فجلس الحافظ لذلك وحضر خواصه في ظاهر الرواق على مراتبهم، فانتهت النوبة في الإنشاد إلى أبي القاسم بن هانئ، فأنشد ما اهتزت له المعاطف وفض ختام روضه ليس لها إلا القلب والسمع جانٍ وقاطف، فمال الحافظ إلى القاضي الموفق متعجباً، وقال له: كيف تسمع؟ فاستحسن واستجاب، حتى نسبه إلى الإعجاز أو كاد، وهو في خلال ذلك يصنع صنع المخاتل، ويحاول قرطسة المقاتل، فسأله الحافظ عن الرجل، فأثنى على أدبه، وثنى بنسبه، حتى أوهمه الاعتناء به. ثم قال: ولو لم يكن له مما يمت به إلا انتسابه إلى أبي القاسم بن هانئ شاعر هذه الدولة، ومظهر مفاخرها، وناظم مآثرها لكفى، فكيف وفيه هذا الأدب الغض النضير، والشعر الذي لا ند له ولا نظير! لولا بيت أظهره منه الضجر عند دخوله هذه البلاد، فقال له الحافظ: ما هو؟ فتحرج من إنشاده، وامتنع من إيراده. فأبى الحافظ إلا أن يورده، ففي أثناء ذلك صنع هذا البيت وأنشده:
تباً لمصر فقد صارت خلافتها ... عظماء تنقل من كلبٍ إلى كلب
فعظم ذلك على الحافظ، وأمر بقطع صلته، وكاد أن يفرط في عقوبته، ولم يحصل له انتعاش من جهته طوال مدته.
[قال علي بن ظافر]
وأخبرني الفقيه أبو محمد عبد الخالق المسكي، قال: أخبرنا تاج الدين أبو سعيد - وهو أبو عبد الله أيضاً محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي، قال: جاء رجل إلى أبي نصر أحمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن شمر الصخديهي - وكان قاضي بلد تعرف بخمس القرى - وكان من العلماء الفضلاء، فقال له في معرض الدعابة والمزاح: اشهد على أنني قد وقفت معدتي على سائر ألوان الطعام. فقال: قد شهدت، فقال: سجل لي، فأمر كاتباً فكتب كتاب وقف، فلما قدم إليه كتب في موضع الشهادة هذه الأبيات - قال: وكان ارتجالها ما بين ابتداء الكتاب وفراغه - وهي: