ورواه لي أيضاً جماعة من الأندلسيين متفرقاً، أن أبا الفضل صاعداً اللغوى دخل على المنصور بن أبي عامر المعافري كفيل المؤيد بن الحكم بن الناصر الأموي والمتغلب على دولته، فأهدى إلى المنصور وردة منطبقة في غير أوانها، فقال لصاعد: قل فيها شيئاً، فارتجل:
أتتك أبا عامر وردة ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها
فأفرط المنصور في استحسانها، فحسده ابن العريف أحد الندماء، وقال: إنهما ليسا له، وقد أنشدنيها بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه. فقال المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف وركب، وجعل يحث حتى أتى مجلس ابن بدر - وكان أحسن أهل وقته بديهة - فوصف له ماجرى، فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد:
عشوت إلى قصر عباسة ... وقد جدل النوم حراسها
فقالت: أسارٍ على هجعةٍ ... فقلت: نعم، فرمت كاسها
ومدت يديها إلى وردةٍ ... يحاكي لك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها
فوليت عنها على عفةٍ ... وما خنت ناسي ولا ناسها
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتاب بخط مشرقي، وتحيل حتى غير المداد، ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه على صاعد، وقال للحاضرين: غداً أمتحنه، فإن فضحه الامتحان لم يقم في مكان لي فيه سلطان. فلما أصبح طلب فحضر، وأحضر جميع القدماء، فدخل به وبهم إلى مجلس حفل، قد أعد فيه طبقاً عظيما فيه سقائف مصنوعة من جميع النوار، عليها لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحتها بركة ماء قد ألقي فيها لؤلؤ مثل الحصباء، وفيها حية تسبح، فقال لصاعد: بلغنا أنك تكذب في شعرك، وقد وقفنا على حقيقة ذلك، وهذا يوم إما أن تسعد فيه عندنا وإما أن تشقى، وهذا طبق ما أظنه حضر بين يدي ملك قبلي، فصفه حالا، فقال صاعد يديها: