للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد بالأدلة على من خصص تحريم الإسبال]

والرد على من يقول: التخصيص بالخيلاء: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، وهذا على الإطلاق، ولا يمكن حمله على التقييد؛ لأن الحكم يختلف، فالأول: قال: (ما أسفل الكعبين -وحكمه-: ففي النار).

وفيه تأويلان: التأويل الأول: ما كان تحت الكعبين فهو في النار، أي: عندما يقف في عرصات يوم القيامة ليحاسب؛ لأنه أسبل إزاره، فيرى سبيله في الجنة أم في النار.

التأويل الثاني: إجراء الحديث على ظاهره، فقالوا: هذا من فعل أهل النار ويعاقب عليه.

والصحيح: التأويل الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء) أي: كبراً وتفاخراً، فحكمه: (لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، وله عذاب أليم).

إذاً: اختلفا في الحكم، وإذا اختلفا في الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد.

أيضاً: عندنا نوعان من الإسبال: الأول: نوع محرم تحريماً أغلظ من الثاني.

الثاني: نوع محرم تحريماً أخف من الأول.

فأما النوع المحرم الأغلظ فهو: أن يجر ثوبه خيلاء، فيمشي به بين الناس كالطاوس، فيتكبر ويتجبر ولا يذكر لله نعمة عليه، فهذا حكمه أننا نسقط عليه كل الأدلة التي جاءت في حكم المسبل إزاره: (فلا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، وله عذاب أليم)، بل في رواية: (لا يدخل الجنة).

وأما النوع الثاني: -وهو النوع الأخف- قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما أسفل الكعبين ففي النار)، وهو: أن يجر ثوبه ولا يقصد الخيلاء، ولا يمر على قلبه الكبر بحال من الأحوال، لكنها عادة القوم، كأن يكون قد رأى أباه أو أهله يسيرون بثياب طويلة ففعل ذلك، فيلبس لباسهم ويسبل الإزار تحت الكعبين، وهذا أيضاً قد وقع في كبيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صاحبها من أصحاب النار، لكنها أخف من الأولى، وهذا هو الراجح والصحيح، وهو الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الأصل في العطف المغايرة، وقد عطف النبي صلى الله عليه وسلم بين الأول وبين الثاني، فقال: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، ثم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).

إذاً: الإسبال محرم مطلقاً، وهذا هو الراجح والصحيح على من حمل كل الأدلة التي جاءت في تحريم الإسبال بأنها على الخيلاء.

وأما الذين احتجوا بفعل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فنقول: إذا وقفت مع من يحتج بدليل ليس له، ورددته عليه لكان دليلاً لك، فلما قالوا: أبو بكر لا يمكن أن يفعل ذلك خيلاء؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لست منهم يا أبا بكر)، والرد عليهم من حديث أبي بكر من وجهين: الوجه الأول: إن أبا بكر لم يكن مرخياً لثيابه، بل كان يرفع إزاره إلى الكعبين، أو إلى نصف الساق، والصحيح الراجح: أنه كان يرفعها إلى الكعبين؛ لأنه عندما كان يتركه فيسترخي فينزل تحت الكعبين.

إذاً: هذا الحديث لا يتعلق به؛ لأن أبا بكر كان لا يرخي ثوبه، بل الأصل في ثوبه أنه فوق الكعبين.

الوجه الثاني: إذا قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لست منهم يا أبا بكر!)، فليس فيه دلالة على إباحة الإسبال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عموماً: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، فهذا مسكوت عنه، والمسكوت عنه أقصى أحواله إما أنه يجوز، وإما أنه يحرم، وقد جاء الاحتمال بالتحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل الكعبين ففي النار).

والرد عليهم أيضاً من دليل ابن عمر لما استأذن بالدخول على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن مجمعون على أن ابن عمر ليس من أهل الخيلاء، وإزاره كان قد أرخاه تحت الكعبين، فلو كان جائزاً هل للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينكر عليه أمام أصحابه؟ بل قال له: (لو كنت عبداً لله) وعلامة العبودية أن تأتمر بأمر الله، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا دلالة واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق هنا بين الخيلاء وغير الخيلاء.

أيضاً الرد عليهم من حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ وعمر هو أفقه الناس بكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر، وعمر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يتبعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)، فـ عمر ملهم، ويجري الحق على لسانه، والملائكة تتكلم على لسانه، فهو أفهم الناس وأفقههم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما دخل الشاب يمدح في عمر ويثني عليه، قال له عمر: يا بني! ارفع ثوبك يكن مرضاة لربك ومطهرة لثوبك، فلو أن عمر فقه من النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيلاء يحرم وغير الخيلاء لا يحرم لكان له الوقوف عند حدود الله ويقول: يا بني! أخبرني هل هذا الإسبال فيه كبر منك، أم عادة فقط؟ فلما لم يسأله عمر رجعنا إلى قاعدة الشافعي: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه يقول: أسبلت سواء خيلاء أو غير خيلاء فقد اقترفت إثماً وتجرأت على حدود الله جل في علاه، ارفع إزارك مرضاة لربك ومطهرة لثوبك.

فهذه الأدلة كلها تثبت أن القول الأول ضعيف.

إذاً: الإسبال عند المحققين على نوعين: إ سبال يحرم، وهو: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار).

وإسبال أغلظ من الأول، ألا وهو: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (لم ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء يوم القيامة)، وهذه عقوبة في الآخرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>