ومن صفحات حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله تعالى عنه الإنصاف، فقد كان رجلاً منصفاً حتى مع مخالفيه، ولقد هم السلطان أن يقتل الرجال الذين سعوا بـ شيخ الإسلام لديه، وأفتوا بقتله؛ لأنهم أفتوا بخلع السلطان، فلما عاد إلى سدة الحكم استفتى شيخ الإسلام في قتلهم، فجثا على ركبتيه وقال له: اتق الله! هم مادة الإسلام، إذا قتلت هؤلاء لا تجد مثلهم في الآفاق! وما زال بالسلطان حتى رجع عما كان قد أضمره من قتل هؤلاء! يقول القاضي ابن مخلوف وهو من أشد أعداء ابن تيمية ومن الذين أفتوا بقتله ما رأينا مثل ابن تيمية، جاهدنا لنقتله فلما قدر علينا عفا عنا! هكذا يكون العالم منصفاً لله تبارك وتعالى، فهو منصف مع كل الفرق، ويعطي كل ذي حق حقه، ويذكر السلبيات والإيجابيات، وهذا بحر طويل لا يتسع المقام لذكره، لكن لنذكر منه شيئاً! اسمع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن الإمام الغزالي، وهو من رءوس الصوفية وفقهاء الشافعية وأئمة الأشعرية، وكان رجلاً متبحراً في العلوم لكن بضاعته في الحديث كانت مزجاة؛ ولذلك ضل عن السبيل، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة، ينتهي في هذه المسائل -مسائل الإيمان والغيب- إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك -انظر إلى الإنصاف! - رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف إلجام العوام عن علم الكلام.
ما أحرانا بتحري الإنصاف مع الخصوم والمخالفين، لو كان هذا في زماننا وتحدث رجل عن مخالف له لقال لك: المبتدع، رأس النفاق، أستاذ المبتدعة، وغير ذلك من الشقشقات الفارغة التي قطعت حبال المودة بين قلوب الناس، علينا أن نكون منصفين، فإن الله تبارك وتعالى خاطبنا بالإنصاف حتى مع المشركين فقال:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:٨٣]، ولفظ الناس يعم الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم.