[تمسك الأئمة الأربعة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم]
وجاء الأئمة الأربعة ففعلوا كما فعل الصحابة، فارتقوا كما ارتقوا، وتمكنوا كما تمكنوا.
فهذا الإمام أبو حنيفة الذي قال فيه الإمام الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة وقد كان في مكان يضعف فيه أن يأخذ الأثر عن الثقات، فقدم النظر على الأثر الضعيف الذي لم يخرج من أفواه الثقات الأثبات، وأبو حنيفة نفسه يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط، وخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو قول الإمام مالك عندما قال: كل يأخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر.
وجاء رجل إلى الإمام مالك وقد أراد أن يلبي بالعمرة أو بالحج من قبل الميقات فقال له الإمام مالك: لا تفعل، قال: ولم إنما أفعل ذلك زيادة في الخير.
فقال له: لا تفعل لا ترى نفسك فعلت شيئاً قد قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أخشى عليك الفتنة.
مع أنه جائز، ولكن لما رأى نفسه قد فعل شيئاً قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أخشى عليك الفتنة، فالتخلف عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تودي بالمرء إلى الفتن، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣].
ولما تركت السنة رد الناس إليها الشافعي، وهو الذي قال فيه الإمام أحمد: كان الشافعي للناس كالشمس للدنيا.
وهو الذي رفع راية التمسك بالآثار.
وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
ودخل عليه رجل في مجلسه يسأله، وكان هناك من طلبة العلم الكثير، فقام طالب من طلبة العلم قد أذن له الشافعي أن يجيب، فلم يعبأ السائل لهذا الطالب؛ لأن الشيخ موجود، فأجاب الطالب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه المسألة فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقام الرجل وكان فقهه قليلاً فقال: يا شافعي أتقول بقوله؟ فقال له الشافعي: ولم لا أقول بقوله وقد قال بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ وما لي لا أقول بقول النبي صلى الله عليه وسلم.
بل لقد أدب الإمام الشافعي رأساً من رءوس السنة وعلماً من أعلامها، وشيخ البخاري الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه، فقال له كلمة حفرت في صدره إلى أن مات، وذلك أنه لما رحل الإمام أحمد بن حنبل مع إسحاق يريدان ابن عيينة في مكة ليسمعا منه دخلا مكة فقال له أحمد من باب النصح في الله، والدين النصيحة: سأريك رجلاً شاباً لم تر عينك مثله، فعليك به أو فالزمه.
فنظر إليه وقال: نترك مجلس ابن عيينة يقول: حدثنا فلان عن فلان، ونجلس إلى هذا الحدث؟! أي: الرجل الصغير، فقال له الإمام أحمد وكان فقيهاً يعلم الرجال: إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو فخذه بنزول، يعني: تنزل طبقة وتجد الحديث، فإن فاتك الحديث بعلو فخذه بنزول، وإن فاتك العلم من هذا الفقيه فلن تأخذه من غيره.
فدخل معه جلس في مجلسه، وكان الشافعي يتكلم على رباع مكة هل تملك أم لا تملك؟ وكان الشافعي يرى: أنها تملك، واستدل على ذلك بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل مكة قالوا: أتنزل في بيت عقيل، أو تنزل في بيوت من بيوتك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؛ لأن عقيلاً ورث أباه وكان كافراً ثم باع هذه الديار؛ فقال: ما ترك لنا عقيل من دار، ولم يفهم إسحاق هذا الحديث ولا مغزى الحديث.
ولله در ابن تيمية عندما قال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه.
وفهم المتن هو رأس الأمر، وهو الفقه؛ لأن الفقه: هو الفهم.
فلم يعقل إسحاق المغزى من هذا الحديث، وكان يرى عدم البيع، فقال له: يا شافعي، حدثني فلان عن فلان عن فلان أن عائشة كانت ترى عدم البيع، وحدثني فلان عن فلان أن فلاناً من الصحابة كان يرى ذلك.
فقام الشافعي مستغرباً مندهشاً وقال للناس: من هذا الذي يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من أصحابه؟ قالوا: إسحاق بن راهويه، قال: هذا فقيه خراسان؟ فقال إسحاق: يزعمون ذلك.
ثم تكلم بكلمة فارسية سب بها الشافعي، فقال له الشافعي: تناظر؟ فقال: أناظ، وبعدما ناظره قال له الشافعي: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: قالت عائشة، وقال الزبير! لا يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائناً من كان.
وأختم الأئمة الأربعة بإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وكيف تحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأقوال الكثيرة في مذهبه يعتذر له فيها أنه كان يتلمس السنة، فيقول بالقول، فيظهر له حديث فيقول بالقول الذي فيه حديث؛ لأنه يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: لا تأخذوا مني، ولا من ابن عيينة، ولا من الثوري، وخذوا من حيث أخذوا.
يقصد بذلك: أن تأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مطبقاً قول شيخه الإمام الشافعي: من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له أن يأخذ بقول أحد كائناً من كان.
وقال الإمام ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فالرفعة كل الرفعة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.