[مناسك يوم النحر وأيام التشريق]
ويذهب ماشياً إلى منى، وعليه السكينة والوقار، ويكثر من التلبية والتكبير -ولا تكون التلبية جماعية، فإن ذلك من الأخطاء التي يقع فيها الحاج- فيلبي ويكبر ويستغفر ويذكر الله حتى يصل إلى جمرة العقبة، فيرمي السبع الحصيات، وطريقة وقوفه عند رمي الجمرات أن يكون صدره مقابل العمود الذي في الحوض، فتكون مكة عن يساره ومنى ومسجد الخيف عن يمينه، فـ ابن مسعود -بعدما فعل ذلك قال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
فيرمي سبع حصيات كالحصى الخذف، يعني: هذه الحصى تكون كالحمص أو فوق الحمص قليلاً، ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عند رمي أول حصاة، وليعلم أنه لا يرمي الشيطان، ولا يرمي أحد، وإنما هذا منسك من مناسك الحج.
فيجب على الحاج أن يقف الوقفة الصحيحة، ويرمي ولا يسأل أحداً بعد ذلك بأن الحصيات لم تقع في الحوض، أو نحو ذلك، فإن الله جل وعلا قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦]، وهذه هي استطاعتك، إلا إذا كان هذا الحاج مستيقناً أو غلب على ظنه أن واحدة من الحصيات لم تنزل في الحوض، أو أنها ضربت في الشاهد وخرجت -لكن لو ضربت في الحوض ثم خرجت فهذه صحيحة- ففي هذه الحالة عليه أن يعيد رمي هذه الحصاة.
فإذا رمى فليذهب لينحر، أو يشهر النحر -ووقت النحر يمتد إلى ثالث أيام التشريق- ثم يذهب إلى الحلاق فيحلق.
وهذا الترتيب هو الترتيب السني بالنسبة للتقديم والتأخير، وقد جمعوا هذا الترتيب السني في هذا اليوم بكلمة (رنحط)، يعني: رمي ثم نحر ثم حلق ثم طواف، أي: طواف الإفاضة، وهذا الترتيب هو الأفضل لمن استطاعه، أما الذي لا يستطيع ذلك فلا شيء عليه إن قدم أو أخر؛ لأن النبي النبي صلى الله عليه وسلم (جاءه أحدهم يقول: طفت قبل أن أنحر، قال انحر ولا حرج، وجاء آخر فقال: سعيت قبل أن أطوف، فقال: طف ولا حرج، وآخر قال: رميت قبل أن أحلق، فقال: ارم ولا حرج) فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر في هذا اليوم إلا وقال: (افعل ولا حرج)، فأي إنسان يرى أن السهل عليه أن يسعى قبل أن يطوف فليسع، أو أن يطوف قبل أن يسعى فله ذلك.
ثم بعد ذلك إذا فعل هذه الثلاثة يكون قد تحلل، بل يقول بعض أهل العلم: إن الرمي وحده يكفي في أن يتحلل بذلك، أما جمهور الفقهاء فإنهم يرون أنه لا بد أن يرمي ثم يحلق أو يطوف حتى يتحلل، والأحوط -خروجاً من خلاف الفقهاء- هو أن يرمي ويحلق، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب قبل أن يطوف؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكنت أطيبه بعد أن يحل قبل أن يطوف بالبيت)، فيتطيب ويغتسل ويحل له كل شيء إلا النساء، وهذا هو التحلل الأول فإذا طاف بالبيت سعى بين الصفا والمروة، وهذا واجب، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إنه لا حج لمن لم ير السعي بين الصفا والمروة، ويخالف طواف الإفاضة مع السعي، طوافَ القدوم، في الرمل والاضطباع، فإنهما خاصان بطواف القدوم أو العمرة، أما طواف الإفاضة فلا رمل ولا اضطباع فيه، فيمشي ويقول ما قلنا في طواف العمرة من الأدعية والأذكار، فإذا فعل ذلك حل له كل شيء، وهذا يفعله وجوباً، والواجب هو الذي لو ترك سهواً أو نسياناً فلا شيء على صاحبه، كما لو كان يمشي بالسيارة ولم يصل إلى منى إلا فجراً، فهذا ليس عليك شيء، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦]، ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، فالمحظورات هذه من ارتكبها بخطأ -بدون عمد- أو بسهو أو بنسيان فلا شيء عليه.
ثم في اليوم الثاني -يوم الحادي عشر، وهو أول أيام التشريق- فالسنة أن ينتظر حتى الزوال ثم يرمي، وهذا أيضًا وجوباً، وقد يفتي البعض بأنه يجوز أن يرمي بعد الفجر، أو بأي وقت قبل الزوال، ويحتج هؤلاء بأن ديننا يسر، فأقول صحيح أن ديننا يسر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تصفه عائشة رضي الله عنها فتقول: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، ولكنه قد بين ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف عند الجمرة يتحين الزوال، فإذا زالت الشمس رمى) فلو كان الأيسر على الأمة أن يكون الرمي قبل الزوال لرخص النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتحين وقت الزوال، فإن ذلك يعني أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال، أما الإحتجاج بعدم القدرة وخاصة النساء والشيوخ، وذلك بسبب كثرة الناس.
فالجواب عليه أن الرمي لا يختص بوقت الزوال فقط، وإنما يمتد إلى فجر اليوم الثاني، وبذلك يكون الإنسان قد عمل بالسنة، وأمن على أهله وولده، ورمى وهو يستشعر أنه طائع الله جل في علاه.
ومن السنة أيضًا أن ينزل بعد أن يرمي إلى مكة ويطوف بالبيت ثم يرجع يبيت في منى، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا لم يستطع فله أن يجلس في منى الثلاثة الأيام، إن أراد التأخير -وهو الأفضل- قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:٢٠٣].
فإذا تأخر إلى اليوم الثالث رمى أيضًا بعد الزوال، ويجوز أن يرمى عن الأولاد وعن الزوجة أيضًا إن لم تستطع، فمن فعل ذلك في اليوم الثالث فقد تم حجه، وقضى تفثه، وأتم السنن والمستحبات والواجبات.
ويبقى أن ننبه على أمر قد أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عباس أنه قال: (أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الحاج أن يكون آخر عهده بالبيت)، فطواف الوداع لا يجوز تركه، ومن تركه فعليه دم.
هذه إجمالاً أحكام الحج جميعاً، وصلنا إلى نهايتها، ونسأل الله أن يلهمنا الإخلاص، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.