للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثبوت حد الردة بالسنة والإجماع]

إن حد الردة أيضاً ثابت بالإجماع، والذي يرد الإجماع يكفر، لكن الإشكال أن بعض علمائنا من أهل الأصول قالوا: راد الإجماع يكفر إذا كان الإجماع يستند إلى دليل قطعي، وأما إذا كان يستند إلى دليل نظري ففيه نظر؛ لذلك فالمسألة فيها أخذ ورد.

إذاً: فحد الردة ثابت بالسنة وبالإجماع، فأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من سب رسول الله فإنه يقتل، وهذا نقله ابن المنذر في الإجماع، وكتب الأئمة الأربعة تعج بذلك، فبالاتفاق أن من سب رسول الله يقتل، فما بالكم بمن سب الله؟! وكذلك سب دين الله جل في علاه؟! أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، فالإجماع منعقد على حد الردة، وأن الذي يرتد عن دين الله يقتل.

وأما السنة: فقد ثبت في الحديث المتفق عليه أن أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن ردءاً لـ أبي موسى الأشعري، فدخل معاذ على أبي موسى فقال: يا أيها الناس! إني رسول رسول الله إليكم، وأبو موسى يعلم منزلة معاذ، حيث إن معاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم الناس بالحلال والحرام معاذ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي معاذ يوم القيامة يسبق العلماء برمية حجر)، أي: يتقدم العلماء وأبو موسى الأشعري يعلم مكانة معاذ، فألقى له وسادة وقال: اجلس فهذا مكانك، فأوتي معاذ قبل أن يجلس برجل مكبل، فقال: من هذا؟ قالوا: يهودي دخل الإسلام ثم ارتد عن دين الله جل في علاه، فقال معاذ: (ارتد بعد إسلامه؟ قالوا: نعم، قال: والله لا أقعد حتى يقتل)، فـ معاذ لم يعلم قتل المرتد إلا من النبي صلى الله عليه وسلم، ويتضح ذلك من قول معاذ لـ أبي موسى: (والله لا أقعد حتى يقتل، فما قعد حتى قتل، فقال معاذ: هذا قضاء الله) أي: هذا قضاء الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووجه الدلالة منه: أن معاذاً رضي الله عنه نسب القتل إلى أنه قضاء الله، وهو ليس بكاذب ولا متأول ولا متنطع وحاشاه، بل هو صحابي من صحابة رسول الله لا يتحرك إلا بإشارة من رسول الله، ولا ينفذ حكم القتل إلا بشرع من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: قضاء الله، وهو لا يوحى إليه، إذاً: فعندما ينسب القضاء إلى الله فهو عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث متفق عليه لا يستطيعون الكلام عليه، وقد رواه بقية الجماعة أيضاً.

ومن الأدلة في السنة: حديث عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا حديث له قصة لطيفة جداً، وهي: أن علي بن أبي طالب جاءه أناس فقالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فأقام عليهم الحجة وقال: اتقوا الله إني بشر مثلكم، إني آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، ثم تركهم يوماً، ثم رجعوا فقالوا: أنت خالقنا ورازقنا، فأجج النار فأحرقهم بالنار،؛ لأنهم ارتدوا عن دين الله، وادعوا الألوهية لـ علي فلما بلغ ابن عباس ذلك قال: لو كنت مكانه ما فعلته، إن الله هو الذي يعذب بالنار، (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحداً بعذاب الله جل في علاه)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فإذاً: حكمهم القتل لا الحرق، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في البخاري وفي السنن الأربعة.

ومن الأمثلة في السنة: حديث مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، ثم ذكر من الثلاث: (التارك لدينه المفارق للجماعة).

ومن السنة أيضاً: ما أورده أصحاب السير، وهذا الحديث معول على إمرار الحافظ ابن حجر له دون بيان القدح فيه، قال: ذكر أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل امرأة ارتدت عن دين الله جل في علاه.

وهذا الحديث سيكون لنا فيه وقفة في الرد على الشبهات حوله بفضل الله.

ومن السنة أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قيل له: إن امرأة ارتدت وارتد من ارتد من العرب، فأمر زيد بن ثابت فقتلها.

كذلك قتل رجل على عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه كان قد ارتد، فقتلوه قبل أن يستتيبوه، فجاء رجل يخبر عمر، فقال عمر: أما أطبقتم عليه بيتاً ثم أطعمتموه في كل يوم رغيفاً حتى يرجع إلى الله، فإن لم يرجع فاقتلوه، اللهم إني لا أرضى ولا آذن.

يعني: لا آذن أن يقتل من غير استتابة.

وكذلك عثمان بن عفان، فقد جاء بسند صحيح أن امرأة ارتدت في عصر عثمان فأمهلها ثلاثاً، فلم ترجع لدين الله فقتلها.

إذاً فحد الردة ثابت بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم كما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآثار ثابتة عن الخلفاء الأربعة، فهذا فعل أبي بكر وفعل عمر وفعل عثمان وفعل علي، فهي سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهو إجماع وسنة ثبت به حد الردة فأبى علينا المرجفون إلا أن يقولوا: لا ردة في الإسلام، ولا حد في الردة، واستدلوا بأدلة على ذلك، وأول هذه الأدلة التي استدلوا بها قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦]، وقول الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، قالوا: وهذا تخيير من الله جل في علاه.

واستدلوا أيضاً بقصص عجيبة منها: أن هجرة الحبشة الأولى تنصر فيها اثنان ممن هاجروا إلى الحبشة بعدما كانوا على الإسلام، وما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الحد.

قالوا: وفي المدينة كان حصين له ابنان تنصرا فأراد أن يقتلهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اتركهما {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦]، فاستدلوا بهذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تركهما ولم يقتلهما.

ومن الشبهات التي ذكروها أيضاً أن هذه الآيات قطعية في الدلالة، وأما الأحاديث فظنية الدلالة، والقطع إذا تعارض مع الظن فإنه يقدم على الظن.

ومن الشبهات أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أقام حداً بحال من الأحوال، فلما لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة فليس بثابت.

ومن الشبهات أيضاً: أن هذا من اجتهاد الفقهاء، والفقهاء رجال يقبل منهم ويرد.

ومن الشبهات أيضاً: التشكيك في حديث عكرمة: (من بدل دينه فاقتلوه)، فقالوا: إن عكرمة متهم، وكفى أن الإمام مسلم ترك الاحتجاج به.

ومن أعظم الشبهات قولهم: جاء حديث النبي: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الحكم إذا علق على شرطين وعلتين فلا يكون الحكم إلا بوجود الشرطين والعلتين، قالوا: وهذا الحديث قد ذكر شرطين وعلتين فلا حد للردة إلا بشرطين اثنين: الشرط الأول: التارك لدينه، إذاً: فالردة انفراداً لا حد فيها، والمفارق كذلك لابد له من علة أخرى وهي الردة عن دين الله.

وكذلك قالوا: إن المفارق للجماعة معناه: أنه يفارق الجماعة بعدما كان في وطن المسلمين وهو مسلم بينهم وارتد وبدل وذهب وناصر أهل الكفر على أهل الإسلام، فهذا هو الوحيد الذي عليه حد؛ لأنه فارق الجماعة إلى جماعة الكافرين، وحتى في هذه الحالة لم يقولوا: هذا حد ردة، بل قالوا: هو محارب، والمحارب يقتل.

أي: لا يوجد ردة أيضاً.