الرد على من قال بجواز القراءة مطلقاً وللحاجة
الرد على الإمام ابن حزم سيدخل تحت الرد على الإمام مالك؛ لأن أدلة الإمام مالك أقوى من أدلة الإمام ابن حزم.
وأدلتهم: الدليل الأول: الأصل عدم المنع وعدم التحريم، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:١١٦] فالأصل هو عدم المنع، لكن قد جاءنا الناقل الذي نقلنا عن الأصل إلى التحريم، فالأصل الإباحة، لكن حديث علي رضي الله عنه المرفوع ناقل، وكلام عمر بن الخطاب ناقل؛ لأن عمر بن الخطاب وإن خالفه ابن عباس فإني أقول: لو كان عمر في كفة لرجحت كفة عمر.
الدليل الثاني: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج) وهذا عام وقوي، فالحاج يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن.
وأنا أقول لهم: يكون هذا استدلالاً قوياً إذا قلتم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مقامه التبيين، وقد بين عليه الصلاة والسلام المستثنى، وهو: الطواف، والرد على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الحديث عام مخصوص بحديث علي بن أبي طالب من أن الجنابة هي التي كانت تحجزه.
وأيضاً بقول عمر: لا تقرأ الحائض القرآن، وقول علي بن أبي طالب: لا تقرأ الحائض القرآن، والقياس الجلي من المخصصات المنفصلة التي تخصص العموم.
إذاً: فهذا عام مخصوص.
الوجه الثاني: أنهم قالوا: لو كانت قراءة القرآن محرمة لخصصها النبي كما خصص الطواف.
قلنا: المخصص مخصصان: مخصص متصل، ومخصص منفصل.
فالمخصص المتصل جاء في الحديث: (غير ألا تطوفي بالبيت).
وأما المخصص المنفصل فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم لهم في المدينة، والمقام والحال يقتضي أن يبين لها أن الطواف لا يجوز.
الدليل الثالث: قول ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالكتاب إلى كسرى وقيصر، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم وتلا الآية، قال: إن ملوك الأعاجم على الكفر، وهم أيضاً على الجنابة؛ لأنهم يجامعون ولا يغتسلون بنية رفع الجنابة.
والرد على هذا الحديث من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: هذا الحديث لا ينفع أصلاً الاستدلال به في هذا الباب، فهو في غير محل النزاع؛ لأن مسألتنا قراءة الحائض ليست للضرورة ولكن للحاجة، والمسألة هذه على الضرورة، والضرورة هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالآية، وبعث إليه بهذا الكلام ليدعوه إلى الإسلام، فهذه ضرورة، ومحل النزاع ليس في ضرورة، والضرورة تبيح المحظور، فقد قال الثوري وغيره: ابعث بالمصحف للنصراني أو الكافر؛ لعله أن يعلم.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث قد تطرق إليه الاحتمال، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل سقط به الاستدلال، فرسول رسول الله لما ذهب إلى كسرى وقيصر ومعه الرسالة، ألا يحتمل أن يكون هذا الرسول هو القارئ؟ فيحتمل أن رسول رسول الله هو الذي قرأ وهو ليس على جنابة، فلا وجه لكم في الاستدلال.
واحتمال آخر وهو: أن الآية التي قرأها كسرى أو قيصر قرأها مع بعض الكلمات الأخرى التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آية واحدة، وذلك كما تقرأ المرأة الآية في كتب الفقه كاستدلال على مسألة، واحتمال أن يكون نائب كسرى أو نائب قيصر كان مسلماً ويخفي إسلامه فقرأ هذه الرسالة.
إذاً: هذه احتمالات تسقط الاستدلال بهذا الحديث، وهي احتمالات قائمة.
الوجه الثالث: أنه يقرأها كما تقرأ المرأة الذكر، فعندما تركب الدابة تقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:١٣ - ١٤] فلا تقرأ على أنها تلاوة، والفقهاء قالوا: يقرؤها ملك كسرى وقيصر لا على أنها قرآناً تتلى.
والأوجه من ذلك: أن المكلف هو المحاسب فقط، فالمنع يكون على الجنب المكلف، أما هذا فهو غير مكلف.
الدليل الرابع: ما استدل به مالك وتكلم به شيخ الإسلام في الفتاوى، ألا وهو: بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ووجه الدلالة من ذلك أنه قال: يحرم على المرأة نسيان القرآن الذي حفظته، فلا بد من أن تحافظ على هذا القرآن، فلا بد من التلاوة؛ لأنها لو تركت التلاوة نسيت فوقعت في الحرام، فيصير ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والرد على ذلك من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن هذا أيضاً في غير محل النزاع، فحرمة نسيان القرآن المخاطب به هو الناسي عن غفلة، أما المرأة التي تركت القراءة؛ فلأن النبي حرم عليها القراءة، وعلي حرم عليها القراءة، وعمر حرم عليها القراءة، وهذا ليس من غفلتها ونسيانها وإنما هو طاعة لله، فإن كان طاعة لله فلا يدخل في ذلك؛ لأن الحديث يختص بالتي تنسى وتفلت منها لقصدها وبغفلة منها.
الوجه الثاني: أنه ليس من الممكن أن تنسى إلا بترك القراءة، فهي ممنوعة من القراءة، لكن لها طرق ووسائل أخرى يمكن ألا تنسى القرآن بها، فكما أجمع العلماء ونقل الإجماع النووي -وإن كان في الإجماع نظر- بأن المرأة الحائض لها أن تقرأ القرآن في قلبها، ولها أن تمرر الآيات في خاطرها.
وعلى هذا فيجوز لها أن تكتب السورة التي حفظتها في ورق؛ لأنه لم يرد النهي عن الكتابة، والأصل عدم المنع، لكن لا تقرأ، لأنه قد ورد النهي عن القراءة، ثم بعد ذلك تأخذ الورق وتحرقه وتدفنه.
وكذلك المسجل، وهو من منن الله علينا، فلها أن تأخذ شريطاً للسورة التي تحفظها وتسمعها في المسجل.
فنقول: الراجح الصحيح هو: عدم قراءة الحائض للقرآن.