للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حاله مع الله تعالى]

لندع تلميذه ابن قيم الجوزية يحكي لنا طرفاً من حياة ابن تيمية، فهذا التلميذ خصيص بـ ابن تيمية، سجن معه ولم يطلق صراحه إلا بعد وفاة ابن تيمية هو شعاع من نور ابن تيمية أرسله إلى هذه الأمة، يقول ابن قيم الجوزية: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في الدنيا جنة -يعني بها: جنة الإيمان، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم- من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري -أي: الإيمان والعلم- أينما ذهبت فهي معي، أنا سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة في سبيل الله تبارك وتعالى.

فأمره كله مفوض إلى الله عز وجل، أسلم قياده إلى تدابير القدر، فما يصنع أعداء الله تعالى بطالب علم أسلم قياده إلى الله عز وجل، يعلم أن له في كل أمر من أمور حياته حكمة مع الله تبارك وتعالى، فاسمه الحكيم سبحانه وتعالى؟ وكان يقول في محبسه بالقلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما وفيت شكر هذه النعمة، رجل مسجون مأسور محبوس، يذكر عن نفسه أنه لو أنفق ملء القلعة ذهباً ما وفى حق شكر نعمة الله تبارك وتعالى، عندما جاءه الجلاوزة ليقتادوه إلى هذا الحبس الذي قضي عليه فيه هش وبش وابتسم، وقال: كنت أنتظر ذلك منذ أمد طويل، وهذا فيه خير عظيم، ثم انطلق معهم إلى السجن، فلما أغلق الباب تفتق ذهنه فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣]، لذلك يقول ابن قيم الجوزية: كنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الدنيا أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة! فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، يقول ابن القيم: سمعته يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! وحضرته مرة وقد انفتل من صلاة الفجر، ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، فإذا لم أتغذى سقطت قواي، أي: أن ذكر الله تبارك وتعالى هو مادة القوة التي تربط على قلبي، وتنير الآفاق لروحي، فينطلق عاملاً لله تبارك وتعالى، إن هذا المعنى هو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما قال لهم: (إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)، قال العلماء: يقصد ما يفتح الله تبارك وتعالى به على قلبه من أبواب المعاني الإلهية فيطعمه ويسقيه: لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور تستضيء به وقت الكلال وفي أعقابها حاد إذا شكت من كلال السير أوعبها روح القدوم فتحيا عند ميعاد إن مثل هذا الرجل العظيم بعثه الله تبارك وتعالى والأمة تتخبط في دياجير الظلمات، وحاله كحال الشاعر وكأنه يصفه يوم قال: ليل ولم يبقَ غير شعاع لم ينعه للمدلجين الناعي ما زال وضاء الثناء بأمة ضل القطيع بها وضل الراعي إن الإخلاص في طلب الحق والتخلص من أدران الهوى صفحة مضيئة من صفحات شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله، وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله الموضع، فإنها الدين كله، وينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه، وعبادته والاستعانة به كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، ولقد أحس بإخلاصه كل من عايشه وأدركه، فهذا الإمام السبكي وكان من ألد أعدائه، يقول في رسالته: والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره -أي: ابن تيمية - في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان.

يقول الحافظ ابن كثير: لم أرَ مثله في ابتهالاته، واستعانته بالله، وكثرة توجهه إليه.

فكل مسلم حري به وحقيق أن يطرق باب ربه تبارك وتعالى، وأن يرفع حوائجه إلى الله جل وعلا، فالإعانة من الله جل وعلا، فإذا أردت أي باب من الأبواب فاقرع باباً لا يغلق آناء الليل وأطراف النهار، وهو باب الله تعالى؛ لذلك قال بعض العارفين: إن من أدمن قرع الباب أوشك أن يفتح له، من وقف على باب الله تعالى قارعاً مبتهلاً متبتلاً أوشك الله جل وعلا أن يفتح له هذا الباب، ليلج مع السابقين الأولين من العظماء الأماجد الذين حملوا مشعل الهداية، وصاروا في ركاب الأنبياء والمصلحين عمالاً مع الله تبارك وتعالى، مجاهدين تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم، وشيخ الإسلام ابن تيمية الرجل العظيم الذي نزل الإسكندرية، وهذه من مفاخر أهلها، وكذلك الصحابة وطئوا أرضها، ونزلها من الأعلام الأماجد الشوامخ ما لا يحصى عدداً، فشرفنا في هذه المدينة بلقاء شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أرسلوه ليحبس في قلعة الإسكندرية.

مكث ابن تيمية في مدينة الإسكندرية ثمانية شهور يبث اعتقاد السلف رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وأهدى إلى الأمة كتابات من أبدع ما كتب للرد على الملاحدة والمنطقيين، سئل عن تقريرات المناطقة فكتب كتابه الماتع: الرد على المنطقيين، وسئل عن ابن سبعين الصوفي الملحد فألف رسالته: بغية المرتاد المعروفة باسم السبعينية، وهذه كتبها هنا في مدينة الإسكندرية، ودعا إلى منهاج السلف، ومن يومها ومذهب السلف مستقر في مدينة الإسكندرية بحمد لله تبارك وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>