[اتباع الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم]
إن أروع الأمثلة التي ضربها الرعيل الأول، ذلك الرعيل الزكي النقي الذي تمكن من ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، والذي تمكن من رقاب العباد، وعبّد العباد لرب العباد؛ لأنهم تمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، موقفهم في المحنة والشدة التي كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتد من ارتد من العرب، وكفر من كفر من العرب، وما بقي إلا قلة من المؤمنين، فلما حدثت الفتنة وأطلت برأسها على أهل المدينة والحجاز ومكة قام أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يعلمنا بلسان حاله أن هذه الأمة لن تثبت إلا بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام خطيباً في الناس بعد ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قام عمر في وجه الناس يقول: إن محمداً لم يمت، وإنما ذهب إلى ربه، وليرجعن وليقطعن أيدي المنافقين، فقام أبو بكر، فقال: على رسلك يا عمر، فما سكت، فقال: إليك عني.
ثم قام خطيباً في الناس فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ومن هنا وقفت الأمة وثبتت على أرض راسخة، وبعد هذا الثبات ثبتت مرة أخرى في حرب الردة عندما قام عمر يعارض أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في قتال قوم قالوا: لا إله إلا الله.
فقال: كيف تقاتلهم؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وقد قالوها.
ولكن أبا بكر كان أفقه من عمر، فقاس الأمر وفيه نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال متمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -لأن فيها النجاة-: والله والذي نفسي بيده لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
ولذلك قال إسحاق بن راهويه رضي الله عنه وأرضاه: ثبت الله هذا الدين بـ أبي بكر في حرب الردة، وبـ أحمد بن حنبل في الفتنة.
والغرض المقصود: أن أبا بكر ثبت وثبتت معه الأمة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمثلة تبين كيف كان يتحرى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءته الجدة تسأله عن ميراثها قال لها: أما في كتاب الله فلا أعلم لك فرضاً ولا أعلم لك شيئاً، ثم قال: وأما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم ولعله غاب عني سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فارجعي إلي حتى أسأل الناس، فجمع المهاجرين والأنصار فسألهم عن نصيب أو عن فرض الجدة، فقام المغيرة بن شعبة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس، فقام محمد بن مسلمة أيضاً فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لها بالسدس.
فقد كان يتمسك ويعض بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نهجه صلى الله عليه وسلم، ولذلك أصبح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أصبح أفضل الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
وعندما جاءه عمر بن الخطاب يقول له: اعزل خالداً؛ لأن خالداً في قتال مسيلمة قتل مالك بن نويرة، فجاء أخوه ينعى ذلك، وكان خالد متأولاً، في ذلك؛ لأنه سمعه يقول: إن صاحبكم قد فرض على الناس الزكاة، فقوله: صاحبكم، يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال خالد: صاحبنا! أوليس بصاحب لك؟! فقتله، وحسبه ارتد ولم يكن كذلك، فتأول فقتله، فكان القتل تأولاً.
فقام عمر فقال: اعزل خالداً فقد قتل المسلمين، فقال له أبو بكر -وانظر إلى دقة نظر أبي بكر؛ لأنه قد وفق بحق وثبت بحق بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تمسكه بها رفعة ونصراً لهذا الدين- فقال له: والله والذي نفسي بيده لا أغمد سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ذلك راجعاً إلى عضه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالنواجذ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر خالد بن الوليد على سرية، فقتل بعض من قال: صبأنا صبأنا، وأرادوا الإسلام ولكنهم أخطئوا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلما قالوا: صبأنا صبأنا حسب خالد أنهم على الكفر فقتلهم، وهم كانوا يريدون أن يقولوا له: خرجنا من هذا الدين ودخلنا في دين الإسلام، ولكنهم لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فقتلهم متأولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغه الأمر: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد)، أي: إن هذا فعل لا يصح، ولم يعزله النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على عمله، فكان حري بـ أبي بكر أن يفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، ولا يعزله من مكانه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فلما عظ بالنواجذ على فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك نصراً للإسلام.
وأيضاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش عرمرم ليغزو الروم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسامة من الصغر بمكان قال عمر: اعزل أسامة.
يعني: اجعل أحداً من أشياخ المهاجرين أو الأنصار ليكون أميراً عليهم، فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله لا أنزع أحداً وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الخير كل الخير في ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فثبت الله له الأمة بتمسكه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.