للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اختلاف المطالع]

المسألة الأخيرة في هذا الباب ما جاء في صدر الحديث وهو قوله: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) فهل الأمر بهذا لكل الأمة أم لا؟ وتسمى هذه المسألة عند العلماء: اختلاف المطالع، وقبل أن ندخل في مسألة اختلاف المطالع وهي مسألة شائكة ينبغي أن ندرك تفسير المطالع، وما معنى اختلاف المطالع؟ فقال البعض: إذا اشتركت بلدة مع بلدة أخرى في الليل ولو في جزء منه فمطلعهم واحد، وبه قال النووي وغيره، ولو قلنا بذلك فمن المؤكد أن السعودية مع مصر يشتركان في جزء من الليل، فيكون المطلع واحداً.

القول الثاني: أنهما يشتركان إذا كانت المسافة بينهما مسافة قصر، ومسافة القصر هي ثمانون كيلو، وعليه تكون القاهرة والإسكندرية منفصلتين، وكل مدينة لها رؤيا، ورؤيتها لا تلزم المدينة الأخرى.

القول الثالث: كل قطر أو بلدة لها ولاية معينة فلها رؤيتها لوحدها، فلو رأت الرؤية عملت بها، وإن لم تر الرؤية فلا تلزمها رؤية البلد الأخرى والقطر الآخر.

وبعض المعاصرين حدد المطلع بألفين ومائتين كيلو، أو ألفين ومائتين وستة وستين كيلو، أو ألفين ومائتين وستة وعشرين، وقد تأملت من أين أتى بهذا فكان أقرب شيء أنه نظر في حديث كريب؛ لأن المسافة بين الشام وبين المدينة يمكن تقديرها بهذه المسافة، فعندما وجد ابن عباس لم يأخذ بكلام كريب قال: هذه بسبب المسافة بين الشام وبين المدينة، فيكون اختلاف المطلع واتحاد المطلع على هذه المسافة، فحيثما كانت فهذا معنى اختلاف المطالع.

فهذه مقدمة حتى ننظر في المسألة: هل يعمل باختلاف المطالع أم لا يعمل باختلاف المطالع؟ ومعنى ما سبق: أن من قال باختلاف المطالع ولو كان على مسافة الألفين قال: إن فصل بين بلدة وبلدة ألفان ومائتان وستة وعشرون كيلو، فكل بلد يستقل برؤيته، فأي بلدة رأت الرؤيا فإنها تصوم، وإن لم تر الرؤيا فلا يلزمها الصوم، ومن قال بأنه لا اختلاف في المطالع ولا اعتبار باختلاف المطالع، قال: إذا رأت الرؤيا بلدة واحدة أو دولة فكل الأمة الإسلامية عليها أن تصوم في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا القول قول الجمهور؛ إذ إن جمهور أهل العلم من المالكية والحنابلة والأحناف يقولون بعدم اختلاف المطالع، وعندهم أدلة قوية أثراً ونظراً.

فأما الأثر: فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) وهذا على الجماعة، بمعنى: أيتها الأمة! صوموا إذا رأيتم هلال الشهر، وقد ترونه بواحد أو باثنين، وقد ترونه بمصر أو بلدة، فإن رأيتموه فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فهذا على عمومه.

واستدلوا أيضًا بعموم قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة:١٨٥] قالوا: والشهادة هي الرؤيا، وهذه أيضًا عامة على عموم المسلمين.

وأما من النظر: فإن من مقاصد الشريعة والقواعد الكلية تآلف المسلمين واتحادهم وتجانسهم وتحابهم، وتكون الألفة والترابط بأن يتعبدوا لله في وقت واحد، وأن ينتهوا من العبادة في وقت واحد، فإن ظاهر الحديث الإلزام بالعبادة عند رؤية أي بلد من البلاد، وهذه تؤدي إلى التجانس والتآلف والتحاب، وهذا يوافق القواعد الكلية في الشريعة ومقاصدها في التآلف والاتحاد في عبادة الله جل في علاه، فقالوا: هذه وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى ائتلاف الأمة واتحادها وتحاب أبنائها وتعاطفها، فقد التي تشرذمت كثيراً.

القول الثاني -والأقوال كثيرة، لكننا سنوجز الأقوال المهمة- وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ولهم وجهان: وجه باختلاف كل بلدة عن الأخرى في المطلع، والوجه الثاني: التفصيل، فإذا اتفقوا في جزء من الليل أو في مطلع فعليهم الصيام، وهذا ما وجهه شيخ الإسلام ابن تيمية من أقوال الشافعية.

وهناك تفصيل في مذهب الشافعية لسنا بصدده، وهو: أن كل بلدة رأت رؤيا فإنها تصوم بها، وأما القول الثاني للشافعية فمداره على اشتراط جزء من الليل، فلو أن السعودية رأت لزم مصراً أن تصوم، وكذا لو رأت مصر يجب على السعودية أن تصوم معها، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فشيخ الإسلام ابن تيمية لم يرجح إطلاق قول الشافعية، إذ إن إطلاق قول الشافعية أن كل بلدة لها أمير عليها الصوم بالرؤيا، وبالمثال يتضح المقال، فمصر تصوم مع ولي أمر مصر فقط، وتصوم السعودية مع ولي أمر السعودية فقط، وتصوم المغرب مع ولي أمر المغرب فقط، وتصوم ليبيا مع رؤية بلد ليبيا فقط، فهذا أصل قول الشافعية.

واستدلوا على ذلك بحديث كريب، وأنا أضم القول هذا للقول الثاني؛ لأن هذا الدليل هو دليل للفريقين، لمن قال بالتفصيل في اختلاف المطالع، وكذا من اشترط جزءاً من الليل، استدلوا بحديث كريب وهو في الصحيح، أن أم سلمة بعثت كريباً لحاجة لها في الشام عند معاوية، فلما وصل إلى الشام استهل رمضان ليلة الجمعة فصام مع معاوية، ثم رجع إلى المدينة بعدما قضى حاجة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فلما رجع قابل ابن عباس، فتكلما، ثم سأله ابن عباس على الهلال، فقال: رأينا الهلال ليلة الجمعة فصمنا وسنفطر مع معاوية، فقال له: وأنتم؟ قال: ما رأيناه إلا ليلة السبت، قال: ألا تأخذ برؤية معاوية؟ قال: لا نصوم حتى نرى الهلال أو نتمّ الشهر ثلاثين، هكذا أمرنا رسول الله).

فكأن ابن عباس يقول: أمرنا رسول الله أن أهل الشام إذا رأوا الهلال فليصوموا، ولا نصوم نحن حتى نراه نحن في المدينة، ونحن في المدينة لا نصوم ولا نفطر حتى نرى الهلال، فكأنه يقول: هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (صوموا لرؤيته) فكل بلدة رأت الهلال عليها أن تصوم، وهذا حديث من القوة بمكان.

وأما من النظر: فقالوا بقياس العقل، قالوا: أنتم توافقوننا بأن الشمس إذا غربت في مصر لم تغرب في السعودية؛ لأن الفرق بين السعودية ومصر بقدر ساعة، وهذه تنفع الرجل المسافر بالطائرة، ولو أن رجلاً مصرياً أو من غيرها كان جالساً في مصر ففتح التلفاز وكان يشاهد قناة فضائية مسلمة تنقل الغروب والأذان، فنظر فقال: قد سقط حاجب الشمس في السعودية، والله قد أناط الفقه بسقوط حاجب الشمس أو بزوال الشفق الأبيض، وقد سقط حاجب الشمس في السعودية فعلى الأمة كلها أن تأكل، فمنا من سيصوم ساعة، ومنا من سيصوم دقيقة، ومنا من لا يصوم؛ لأن الشمس لم تطلع أبداً في حياته، ومنا من يفطر قبل الناس بساعة، قالوا: وأنتم تمنعون هذا، مع أن الإفطار علق على غروب الشمس وقد غربت الشمس في السعودية، فسيقال لهم: غربت في السعودية ولم تغرب في مصر، فقالوا: الحمد لله أتينا من لسانكم بما نحجكم به، فإن رؤي في السعودية ولم يروه في مصر فعلى نفس السياق، فأنتم قلتم: غربت في السعودية ولم تغرب في مصر، فسنقول: وكذلك هذا رأوه في السعودية ولم يروه في مصر، فلابد أن نعمل بذلك لأننا لنا رؤية وهم لهم رؤية، كما لهم سقوط حاجب الشمس وعندنا سقوط في حاجب الشمس.

قالوا: وهذا النظر أقوى من نظركم، فاختلاف المطالع واختلاف الشروق والغروب يبين لنا الاختلافات في الأوقات.

والراجح الصحيح في هذا القول هو قول الشافعية، وأنه لابد من العمل باختلاف المطالع، لأن ابن عباس ما قال ذلك اجتهاداً؛ وإذا قالوا: هذا اجتهاد من ابن عباس وقد خالف العموم، قلنا: لا، إن هذا ليس اجتهاداً من ابن عباس، بل هذا قول صريح من رجل عاقل يعلم مراد رسول الله، وهو حبر الأمة وبحرها، على أنه قال: أمرنا، وهذا ليس فيه اجتهاد بحال من الأحوال؛ لأنه نسب الأمر للرسول.

فهذا رد قاطع وفاصل في النزاع لمن يقول: إن هذا كان اجتهاداً من ابن عباس، فقد رفع الحديث حيث قال: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فالصحيح الراجح في ذلك الاعتداد والعمل باختلاف المطالع، فكل بلدة لها رؤيا تعمل بها، واختلاف المطالع -كما قال شيخ الإسلام - هو القول الفصل، وعند الشافعية العمل باختلاف المطالع، فكل بلدة تشترك مع بلدة في جزء من الليل تأخذ برؤيتها أو نقول: إن كان البعد بينهما ألفين ومائتين وستة وعشرين كما حسبها بعضهم، فاختلاف المطالع له أثر أقوى بكثير من الكلام على عدم اختلاف المطالع.

بقي لنا مسألة متفرعة على هذه المسألة وهي: إذا قلنا بأن اختلاف المطالع يعتد به، فلو رأوا الهلال في السعودية وما رأوه في مصر فماذا نفعل؟ نقول: الحق مع اختلاف المطالع، فنأخذ برؤية مصر، ونحن تبع لولي الأمر هنا، فكل بلدة تأخذ برؤيتها بشرط ألا يدخلوا في ذلك الحسابات الفلكية.

فلو قالوا: سيولد أو سيكون جنيناً أو سيكون محاقاً، فلا تأخذ بهذا القول، لأنك أمرت بأن تأخذ بالرؤيا، فإذا قالوا بالحسابات فلا تأخذ بهذا، والأخذ باتفاق المطلع أولى.

أما إذا قالوا: نحن نأخذ بالرؤيا والحسابات تساعدنا مثلاً، فإنني أجد في نفسي حرجاً من ذلك، لكن لو قالوا: الأصل عندنا وعمدتنا هو رؤية الهلال فوجب عليك أن تتبع ولي أمرك في ذلك، فإذا قالوا بالحسابات الفلكية نقول: إذاً لا سمع ولا طاعة، لكن بالاستتار دون أن تأتي بالمفاسد العظيمة، أو أن تهيج الناس عليك وعلى الإخوة الملتزمين وعلى الشرع، فتجدهم يقولون: أتوا بدين جديد.

أنك إذا كنت تعلم أنهم يعتدون بالحسابات الفلكية ولا يأخذون بمسألة الرؤيا، فعليك أن تأخذ بالرؤيا وتفطر في بيتك دون أن تبين لأحد سراً، وتقول: لا سمع ولا طاعة، دون مفاسد، لأن السمع والطاعة مقيد بالسمع والطاعة لله ولرسوله، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩]، فما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>