للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تبحره في كثير من العلوم]

كان له قصب السبق في علم التفسير، وكان آية في استحضار الآيات وانتزاع الأحكام منها كما قال الذهبي، وكان يصف نفسه وكثرة اطلاعه وسعة دائرة مباحثه فيقول: ربما طالعت على الآية الواحدة ما يقرب من مائة تفسير، ثم أسأل الله جل في علاه الفهم وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، أما علم الأثر فهو جبل الحفظ مع دقة الفهم والنقد والتحقيق والتحرير.

قال الذهبي: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه للمتون، وهذا ما انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضار الحديث واستخراج الحجج منهما، وإليه المنتهى في عزوه الحديث إلى الكتب الستة ومسند أحمد.

قال الذهبي فيه: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.

وهو الذي ربط الناس بالأثر دون تعظيم البشر على حساب الأثر، ولا غرو ولا عجب فهذا دأب سلفه من العلماء الربانيين، فهذا أبو حنيفة يقول: إن رأيتم قولي يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بقولي عرض الحائط، وهذا مالك الإمام العلم الذي قال فيه الشافعي: إذا ذكر الحديث فـ مالك النجم، قال مالك: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وقال الشافعي عندما سئل في مسألة فأجاب بعض أصحابه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال السائل: يا شافعي! أتقول بهذا؟ قال: وما لي لا أقول بهذا؟ أرأيتني خرجت من كنيسة؟! أريت في وسطي زنار؟! وما لي لا أقول بما قال به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! والقصة المشهورة في مناظرة الشافعي مع إسحاق بن راهويه عندما دخل أحمد على مجلس الشافعي وقال لـ إسحاق: سأريك رجلاً لم ترَ عينك مثله، فنظر إلى الشافعي فوجده شاباً حدثاً فقال: أنترك ابن عيينة يقول: حدثنا فلان عن فلان ونجلس في مجلس هذا الحدث؟ قال: إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي فلن تجده عند غيره، فجلس مجلس الشافعي وكانت المسألة المطروحة هل تباع بيوت مكة؟ وهل تؤجر؟ وهل تشترى؟ وهل تمتلك أم لا؟ فقال الشافعي: تمتلك وتباع وتؤجر، واستدل على ذلك بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قالوا: (تنزل في بيت عمك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع).

وفقه الحديث: أن عقيلاً ورث عندما كان كافراً أباه وامتلك بهذا الإرث وباع واشترى في هذه البيوت، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فاستشهد الشافعي بهذا الحديث، فلم يتفطن إسحاق لفقه هذا الحديث، فأنكر على الشافعي وقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة -وانتبهوا هو يعارض قول النبي بقول أفضل البشر أجمعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: حدثني فلان عن فلان عن عائشة: أنها ما كانت ترى ذلك، وحدثني فلان عن فلان عن الزبير: أنه ما كان يرى ذلك، وعدد كثيراً من الصحابة، فقام الشافعي مغضباً، ثم قال: من هذا؟ كأنه يقلل من شأنه، قالوا: ابن راهويه، قالوا: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك، قال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنه، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- وتقول: قال فلان وقال علان، فعلمه درساً لم ينساه أبداً.

وقال أحمد: لا تأخذوا مني، ولا من ابن عيينة ولا من الثوري وخذوا من حيث أخذوا، ولذلك رفع هذا الشعار ابن تيمية فربط الناس بالأثر دون تعظيم البشر على حساب الأثر، واستقى ذلك تلاميذه النجباء، وأعلاهم قدراً ابن القيم الذي أتانا بقول يكتب بماء الذهب: ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه ومن درر كلام شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفهم متنه، ففهم المتن رأس الأمر، وهنا يخلط ابن تيمية بين علم الحديث وعلم الفقه، وهذا ما قرره مصنف من تلاميذ تلاميذه وهو: ابن رجب حيث يقول: طبقات العلماء ثلاث، أعلاها وأرقاها فقهاء المحدثين: كـ الشافعي وأحمد والبيهقي والنووي وابن حجر وغيرهم، ولذلك جمع شيخ الإسلام بين العلمين فقال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وهذا علم الحديث رواية، وفهم متنه وهذا علم الفقه أو فقه المتن، فجمع بين العلمين، ولا يزال العلماء يعتدون بتصحيح ابن تيمية وتضعيفه، وآخرهم محدث الشام علامة الزمان العلامة الألباني، أما في الفقه فهو البحر الذي لا ساحل له، فهو المحرر والمدقق والمحقق، وهو القائل: ليس العلم أن تعلم الحلال من الحرام، لكن العلم أن تحرر محل النزاع، وتعرف الراجح من المرجوح، أي: أن تعلم خير الخيرين، وشر الشرين.

ورحم الله ابن رشد حيث قال: صانع الخفاف ليس كبائع الخفاف، وهذا يقرر كلام ابن تيمية، فـ ابن تيمية يقول: ليس العلم أن تعلم الحلال والحرام، فكل إنسان يمكن أن يفتح الكتاب ويقرأ: هذا حلال وهذا حرام، ولكن العلم أن تحرر محل النزاع، وتعرف كيف ترجح بين الراجح والمرجوح، قال: أن تعلم خير الخيرين وشر الشرين، فيقول ابن رشد: ليس صانع الخفاف كبائع الخفاف، يفرق به بين الفقيه العالم المحرر المدقق المحقق وبين المقلد، كأنه يأمر المقلد أن يصمت، ولا يناقش، ولا يجادل، ولا يرد على أحد، ويتعبد بما قلد به، أما المحرر فالفارق بينه وبين المقلد كما بين السماء وبين الأرض، ولذلك قال الذهبي يبين فضل شيخ الإسلام: قد فاق شيخ الإسلام الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة، فليس له نظير، وقال ابن سيد الناس: إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته.

<<  <  ج: ص:  >  >>