[ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية]
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكبر جائزة لـ ابن عباس عندما وضع وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ليتوضأ منه عندما يقوم من الليل، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وفي رواية أخرى في الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم علمه الكتاب)، وقد كان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب).
وشتان شتان ما بين القمر وبين سائر الكواكب! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
وعن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه وأرضاه خطيباً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما المنطوق فهو: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وأما المفهوم فهو: الذي لم يتفقه ولم يلهم العلم ولا الفقه في الدين لم يرد الله به خيراً، فيا للخسارة على من تخلف عن مجالس العلم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، وهذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الفهم الذي هو شطر العلم -إن لم يكن هو كل العلم- محض فضل الله جل في علاه، وهذه توافق قول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:٥٣]، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:٧٨]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)، هذه الطائفة المنصورة والطائفة الناجية، قال كثير من المحدثين: لا نعرفهم إلا أهل الحديث.
قال علي بن أبي طالب للكميل: العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وقال أيضاً: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم كانت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا خلف منه، ولا غرو ولا عجب، فإن الله جل في علاه كتب في اللوح المحفوظ: فناء هذه الدنيا وخرابها مناط بموت العلماء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى يفشو الجهل ويقبض العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق الله عالماً أو لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فإن الساعة لا تقوم إلا بموت العلماء.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبثه لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والدين عند الأخلاق، والقربة عند الغرباء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق يقتفى آثارهم.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: مثل العلماء في الناس كثمل النجوم في السماء يهتدى بهم.
وقال الإمام أحمد: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك بأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم لنصرة دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: هذا الغرس هم أهل العلم.
وبين عمر بن عبد العزيز أن الذي يتعبد على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقال: من عمل بغير علم كان ما يهدم أكثر مما يبني، وليس منكم ببعيد قصة الراهب والعالم عندما أفتيا الذي قتل تسعة وتسعين نفساً.
وقال بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟! لا شيء، وأي شيء فاته من أدرك العلم؟! لا شيء.
وقال الحسن: مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم، فأعتقني، فقلت بأي حرفة أحترف؟ عبد أسود أعتق، أي عمل يعمل بعد ذلك؟ قال: فاحترفت العلم فما تمت بي سنة حتى أتاني أمير المؤمنين زائراً فلم آذن له.
والأعمش سليمان بن مهران كان جبلاً في الحفظ، وإن كان مدلساً لكن كان نحريراً مدققاً محققاً عالماً بالحديث وبفقه متنه، كان يقول: لولا الحديث لازدراني الناس، ولذلك قال لقمان: إن العلم أجلس المساكين مجالس الملوك.
وقال معاذ بن جبل: العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الإيمان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، العلم إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء فقد بين معاذ رضي الله عنه أن الله أناط السعادة بأهل العلم، وأناط الشقاوة بأهل الجهل، وقد بوب البخاري يبين فضل العلم على فضل العبادة أوسع ما يكون، فقال: باب العلم قبل العمل، واستشهد على ذلك بقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:١٩]، فرتب الاستغفار بعد العلم: تعلم فليس أخو علم كمن هو جاهل وإليكم أروع الأمثلة للعالم الرباني، الذي يؤتسى به ويقتفى أثره: هذا النحرير العالم فارس الميدان العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية: إخوتي الكرام! لا يخلو عالم ولا طالب للعلم من همة عالية، فإن علو الهمة عنوان التسديد والنجاح، وسفول الهمة عنوان الخسران والحرمان، لقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: العلم لا ينال براحة الجسد، وقد قالوا: من جد وجد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقال الشاعر: لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا