[ما يرد به على الحنابلة في صيام يوم الشك]
أما الرد على الحنابلة بعد أن رجحنا حرمة صيام يوم الشك فنقول: أولاً: حديث فاطمة بنت الحسين عن علي الذي استدللتم به حديث ضعيف، لأن فاطمة لم تدرك علياً، فالحديث منقطع، والانقطاع يدل على سقوط راو، وسقوط راو يدل على الجهالة، والجهالة تدل على ضعف الحديث، والأحكام فرع عن التصحيح.
كما أن للحديث سياقاً وقصة وهي: أنه جاء القوم فسألوا علي بن أبي طالب، فقال أعرابي: رأيت الهلال، فقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فصام وأمر الناس بالصيام، ثم قال: لأن أصوم يوماً من شعبان خير من أن أفطر يوماً من رمضان.
ولما كان الحديث له قصة وكانت هذه إجابة عما حدث من رؤية الأعرابي للهلال فيبعد أن يكون في النزاع، ولا يصح أن تنفرد بالاحتجاج به؛ لأنه جاء إجابة عن قصة الأعرابي الذي رأى الهلال، فكأن علي بن أبي طالب يؤكد ما أمر الناس به، وكأنه يقول: وتأكيداً لكم لو أن هذا الأعرابي أخطأ برؤية الهلال ورأى حاجبه مثلاً أو شعر حاجبه فقال: هذا الهلال إن أخطأتم في الصيام يوماً من شعبان خير لكم من أن تخطئوا في فطر يوم من رمضان، فكانت إجابة عن القصة أو السياق الذي حدث من الأعرابي.
وأما قولهم: إن ابن عمر كان يفعل ذلك والراوي أعلم بما روى، قلنا: سنرد عليكم من وجهين: الوجه الأول: هذه القاعدة باطلة، وهي مما يعمل بها الأحناف، وليس نصها: الراوي أعلم بما روى، وإنما نصها: إذا خالف الراوي روايته التي رواها فالعمل بما رأى لا بما روى، فهذه قاعدة الأحناف، ومعناها: أن ابن عمر يروي حديث: (فاقدروا له) والرواية الأخرى: (فأتموا الشهر ثلاثين) ومع ذلك ابن عمر -إن لم أكن واهماً أن هذه رواية ابن عمر - خالف وصام، فالراوي خالف ما روى فتكون الحجة فيما رأى في اجتهاده لا الحجة في روايته، وجعلوا فعل ابن عمر تضعيفاً لمعنى الحديث المرفوع.
الأمر الثاني: قالوا: تنزلوا معنا وقولوا: الراوي أعلم بما روى؛ لأنه لما روى: (فاقدروا) فسرها بضيقوا، قلنا: هذا مخالف للرواية الأخرى الصريحة التي رواها، فتفسير النبي بقوله أولى بالأخذ به من تفسير ابن عمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله: (فاقدروا له) بأن يتموا شهر شعبان ثلاثين، فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء ابن عمر ولعله لم يجلس في المجلس الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مثلاً، لكن هو راوي الحديث، فعندما سألوه: عن معنى قول النبي: (فاقدروا له) قال: معناه: فضيقوا له.
إذاً: فعندنا تفسيران: تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني تفسير ابن عمر فبتفسير من نأخذ؟ لا شك أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم من تفسير ابن عمر، قالوا: احترنا معكم فما رأيكم بالدليل النظري؟ ويعنون به الحيطة في العبادات.
قلنا: الرد عليكم فيه من وجوه: الوجه الأول: أن هذه الحيطة لا دليل عليها، والأصل براءة الذمة، فلا تشغل الذمة بحال من الأحوال إلا بدليل؛ لأن الله جل وعلا بين أن العبادات لا يمكن أن تكون إلا بقال الله أو قال الرسول، وهذا لا خلاف فيه، فلا يمكن أن ينشئ المرء عبادة في حال من الأحوال إلا وقد سمع قال الله أو قال الرسول، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].
والأدلة على ذلك كثيرة وهاك بعضها: قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ومن ذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧]، ووجه الدلالة من الآية من وجهين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالوجه الأول في قوله: (ما كتبناها عليهم) إذ لا بد أن تكتب، ولا يمكن أن تكون العبادة مشروعة إلا وقد كتبها الله جل وعلا، وقد رأينا أن الله ما كتب صيام يوم الشك.
أما الثاني: فإنه قال: (ابتدعوها) أي: من عند أنفسهم، وعلى ذلك فالعبادات لا يمكن الحيطة فيها؛ لأن الحيطة فيها تنطع وزيادة على الدين، وقد أكمل الله الدين، وبهذا نعلم أن الراجح في المسألة الأولى: حرمة صيام يوم الشك، ومن صامه فقد عصى الله وعصى رسوله وأثم، ولا يصح هذا الصوم؛ إذ النهي يقتضي الفساد.