كان إماماً مبرزاً وعالماً فحلاً من فحول الأمة في كل أمر من الأمور، ليس في الفقه والحديث والأصول والتفسير والعقيدة فقط، وإنما في التاريخ واللغة، بل حتى في سائر معارف عصره، إنه تعلم اللغة اللاتينية ليدرس كتب الفلاسفة والمناطقة بلغاتهم الأصلية، وتعلم اللغة العبرية ليدرس التوراة والإنجيل بلغتها الأصلية، وتعلم اللغة التركية ليستطيع أن يخاطب بها التتار، فهو عالم موسوعي، من منا الآن تعلو همته ليتعلم ثلاثة لغات لخدمة دين الله تبارك وتعالى؟! إن الذي يحفظ عشرة أحاديث الآن يقال له: أبو فلان كذا، وغير ذلك من الألفاظ العارية عن المحتوى، وهو كان يتحدث ثلاث لغات، ويحفظ الأحاديث حتى قيل: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وهذا من باب المبالغة في إظهار حفظه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
علمه كالبحر، حتى إنه تبحر في علوم اللغة العربية، وكان الإمام أبو حيان الأندلسي وهو من كبار النحاة وعلماء الشريعة والتفسير منبهراً بشيخ الإسلام ابن تيمية فجلس معه يوماً يتناقشان في مسألة من الإعراب والنحو، فأغلظ له ابن تيمية وخطأ قوله، فقال أبو حيان: هذا الكلام ذهب إليه سيبويه، فقال له ابن تيمية: وهل سيبويه نبي النحو؟ إن سيبويه أخطأ في كتابه في ثمانين مسألة لا تعلمها أنت ولا سيبويه! حتى في اللغة كان إماماً مبرزاً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فليس رجلاً عادياً، وهذه الهمة جعلته فوق هامة الزمن إنما هي همة إسلامية صرفة؛ لأن الله تبارك وتعالى حفظ للأمة منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الزمن الذي يعتور فيه منهج أهل السنة والجماعة الأضاليل والأباطيل والبدع، يخرج العلماء الفحول ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين؛ لأجل ذلك وقف الإمام شعبة بن الحجاج رضي الله تعالى عنه، عندما استشرت حركة الوضع في الحديث على أيدي الزنادقة، وقف على الجسر في بغداد ونادى بأعلى صوته: يا أهل بغداد أيظن ظان أنه يستطيع أحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي بين ظهرانيكم، هيهات هيهات، هيهات هيهات! كان ابن تيمية رضي الله تعالى عنه صناعة إسلامية خالصة، رجلاً مبرزاً في كل الأمور، ليس رجلاً عادياً، فالمهمة تحتاج إلى همة، ولن تنال المجد حتى تلعق الصبرَ، فالإنسان يحتاج إلى أن يخوض الأوحال، وإلى أن يعضه الجوع، وإلى أن يتعرى في الله، وإلى أن يفتقر في الله، وإلى أن يؤذى في الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى يصهر الناس في المحن، فإذا صمدوا أخرجهم ذهباً إبريزاً، ثم حملتهم الأمة بعد ذلك فوق رأسها.
فهذا الرجل أمضى حياته بياضها وسوادها لخدمة دين الله تبارك وتعالى، حتى إن والده وهو طفل صغير أراد أن يأخذه مع إخوته للتنزه فبكى واعتذر لوالده، وقال له: لا أحب الخروج فمكث، فلما عاد والده قال: يا أحمد! ماذا صنعت في هذه الفترة؟ قال: يا أبي حفظت هذا الكتاب، ثم دفع إليه جزءاً كبيراً فراجعه معه أبوه فلما وجده حفظه عن ظهر قلب، قال: يا بني لا تخبر بذلك أحداً، خاف عليه من العين.
ولقد بلغ من محبته لنصرة الحق أنه درس الفلسفة من كتب أهلها ثم أنحى عليهم باللائمة وخطأهم، يقول: كنت أنام فأرى في المنام أنني أناظر أرسطو كبير الفلاسفة، فأقطع حجته، وهذا من محبته للعلم.
ولما مرض جاء إليه الطبيب فقال: لا بد من إخراج هذه الكتب من عندك؟ فقال: أنتم تزعمون في الطب أن المحبوب إلى النفس يدفع النفس الغريزية في الإنسان إلى مقاومة المرض أليس كذلك؟ فقال له: نعم، قال: فأنا أحب القراءة والمطالعة، وهذا يقوي النفس الغريزية عندي على مقاومة المرض، فأذن له الطبيب في ذلك، أحب المطالعة في كل صغير وكبير من أمور حياته، لم يقرأ كتاباً ثم يدعي بعد ذلك أنه إمام الأئمة أو سلطان الأمة لا؛ بل أفنى عمره في المطالعة والتضرع لله حتى وهو محبوس مأسور في القلعة، فقد بعث برسالة إلى الإمام ابن قيم الجوزية، يقول: أرجو أن تبعث لي بتعليقة القاضي أبي يعلى، يعرف مكانها أخي، أرسلها على وجه السرعة هكذا يقرأ وهو في السجن، يكتب وهو في السجن حتى أحصى له تلامذته أربعين ألف فتوى في الأمور الفقهية فجمعوها رضي الله تعالى عنه وأرضاه، على كل أمر من أمور حياته مقيم على المطالعة، مقيم على الكتابة، كان يكتب الكتاب الكبير بين الظهر والعشاء! ولما سئل عن الكتابة في المنطق قال: يكفي ما كتبناه في التقرير في النقض على المنطقيين، وقد كتبت ذلك بالإسكندرية في جلسة بين الظهر والعصر، وهو كتاب في مجلد كبير كتبه بين الظهر والعصر استدلالاً واستشهاداً ومناقشة وترجيحاً فرحمه الله تبارك وتعالى! وكتب الصارم المسلول على شاتم الرسول في جلسة بين العصر والمغرب، فقد كان يكتب رضي الله تعالى عنه وأرضاه في كل فن من الفنون، وفي كل أمر من الأمور.