للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مدافعة القدر]

إن مدافعة الأقدار تكون بالأقدار، فلا يصح أن تقول: المرء لا يرضى بالقدر مطلقاً، ولا يصح أن تقول: يرضى بالقدر مطلقاً، بل له أن يرضى بالأقدار ويدافعها بالأقدار؛ لأن عدم الرضا بها مطلقاً، هو قول القدرية، والرضا بها مطلقاً، هو قول الجبرية، وأهل السنة والجماعة وسط، فيقولون: لا يصح أن نقول: مطلقاً، ولا يصح أن نقول: لا يرضى بها مطلقاً، بل له أن يرضى في أحايين، ويدافع في أحايين؛ لأن قدر الله على نوعين: قدر أنزله الله جل في علاه وأنزل معه قدراً آخر يدفعه، وقدر أنزله الله ولا يوجد ما يدفعه، فيقولون: لا نرضى بالقدر حينما نرى القدر الآخر الذي ندفع به، ونرضى به حينما لا نجد قدراً آخر ندفع به.

وبالمثال يتضح به المقال: فالجوع قدر من أقدار الله، وأنزل الله لنا قدراً آخر ندفع به هذا القدر، ألا وهو الطعام، فنحن نأكل لندفع قَدَرَ الجوع بقدر الطعام.

أيضاً: العطش، فإنا ندفع قدر العطش بقدر الشراب، وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء).

إذاً: يصح أن تدافع الأقدار قدر إمكانك كلما أتيح لك أن تدفع الأقدار، فمثلاً: إذا كنت في سفينة وكسرت السفينة، فليس لك أن تستسلم لوحوش البحار لتأكلك؛ لأن لك قدراً آخر، وهو أن تأخذ خشبة من السفينة أو تسبح إن كنت تستطيع أن تسبح.

وقد كنت ذات مرة أختبر، وكان اختباري هذا هو اختبار الماجستير، وكنت أختبر مواد كثيرة في وقت واحد، في حين أن كل الزملاء يمتحنون مادة واحدة، وكنت -والحمد لله- أخذ ثلاث مواد أو خمس مواد فأختبر فيها، وفي نفس المدة وهي ثلاث ساعات، وكان الدكتور عبد الله بركات وهو رجل عنده من العلم لكنه أشعري، وكان يخفي علي ذلك وهو يختبرني، فدخل علي وأنا أختبر ثلاث مواد في وقت واحد، فقال لي: أنت مثخن بالمواد، وما لك إلا الساعات الثلاث، وكل مادة تحتاج إلى ثلاث ساعات، فقلت له: أنا أختبر الثلاث المواد في ثلاث ساعات، لكن لا تكلمني، ولا أريد أن يكون بجانبي أحد، والقلم سيال فقط، فجاء قبل الموعد بعشر دقائق وأراد أن يأخذ الأوراق، فقلت له: نعم، ماذا تريد؟ قال: الورقة، انتهى الوقت ولم يبق إلا عشر دقائق، قلت له: آخذ العشر الدقائق، قال لي: لا، انتهى الوقت، قلت له: أنا لي الآن ثلاثة أيام ما نمت، فلا تتعبني وتضيع وقتي، وحدثت المشادة بيني وبينه، وبعد ذلك حدث الوفاق بحمد الله، فقال: أنت لست بطالب علم! فقلت له: لمه؟ قال: قدر الله قد نزل عليك، وعليك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فقلت له: وربي لن أرضى بهذا القدر! فالرجل كاد أن يموت، فذهب وأتى بالدكتور الثاني فجاء وقال: ما هذا؟ فقلت له: يا أخي! تمهل لا تندهش، أنا لا أرضى بقدر الله، قال: كيف؟ قلت له: إن هذا قدر وقد أباح لي مدافعته الله جل في علاه، أنت الآن من قدر علي، تقول لي: أريد أن آخذ الورقة، وأنا أدفعك وأقول لك: من حقي أن تبقيني إلى آخر دقيقة، فأنا أدافع القدر بالقدر، فضربت له المثل وقلت له: هذا الجوع يدافع بالطعام، والغرق يدافع بالسباحة، فهذا قدر يدفع بالقدر، فأذعن الرجل بفضل الله وتركني.

وفي هذه الأبواب أنصحكم بقراءة كلام ابن القيم، فهذا الكلام ليس من كيسي، وليس من ذات نفسي ولا من ذكائي، بل أعوذ بالله! فالله جل في علاه هو من أطلعني على الفهم الذي أطلع عليه ابن القيم، فـ ابن القيم في كتاب (طريق الهجرتين) وكتاب (مدارج السالكين) أتى بنكت من هذه الأبواب وأبدع فيها، وغاص في كتابه (شفاء العليل)، لكن (شفاء العليل) من يقرأ فيه وليس عنده رسوخ في القدر، لن يفهم كثيراً.

فإذا نزل بالإنسان داء فلا يقول: قدر الله وما شاء فعل، لأنه من قال ذلك فقد أخطأ في فهمه للقدر، بل هذا من الأقدار التي لا بد أن تدفع، قال النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بمدافعة الأقدار: قال: (تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل من داء إلا أنزل له دواء)، فهذه مدافعة للأقدار بالأقدار، لكن هناك أموراً وأقداراً لا يمكن دفعها، ومنها: الموت، فالموت لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، فلا أحد يستطيع أن يرد تقدير الموت، فليس أمام الإنسان مع هذه الأقدار إلا الصبر، أما الصبر فهو الواجب فقط، والإحسان: هو أن ترضى بأقدار الله جل في علاه.