للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الطريق الذي يصل به المرء إلى العلم]

نتكلم الآن عن أمرين اثنين: الأمر الأول: إن كان العلم بهذه المنزلة الراقية وهذه المكانة الرفيعة فلا بد من معرفة المنهج الأسمى والطريق الذي يصل به المرء إلى هذا العلم.

إنه طريق واحد ليصل المرء كما وصل البخاري وغير البخاري، أصل هذا الطريق وركنه الركين وأساسه أن تعرف لأهل الفضل فضلهم، وأن تعرف لأهل العلم قدرهم، وأن تجل العلماء حتى تجل بعد ذلك، واعلم أن الله جل في علاه يغار على أوليائه، وأنه ليس لله أولياء غير العلماء كما قال الشافعي: لا أعلم أولياء لله غير العلماء، فأنت إن علمت قدر منزلة العلماء وأنزلتهم منازلهم، وأعطيت لكل صاحب فضل فضله، كان هذا هو الطريق الذي يمكن أن تصل به إلى الرقي وإلى رضا الله جل في علاه.

وفضل العلماء ينبثق من قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

يروى أنه دخل علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم -يلتفت- لأي مكان يجلس فيه علي، فوسع أبو بكر له وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لـ أبي بكر وقال: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل).

وفي مقدمة صحيح مسلم عن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم).

وكان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يعرف لأهل الفضل فضلهم؛ ولذلك أصبح علماً في الناس والناس يرجعون إليه، وكان حبر الأمة وبحر العلوم رضي الله عنه وأرضاه، وإذا تصفحت في تاريخ طلبه للعلم علمت أنه كان يعرف لكل صاحب فضل فضله، فكان ينام على عتبات أبواب بيوت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذات مرة أخذ بخطام ناقة زيد بن ثابت وكان من أجل شيوخه وعلمائه فقال له زيد: يا ابن عم رسول الله! اترك الناقة، فقال له: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال: يا ابن عم رسول الله! اترك الناقة وهو يقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فينزل زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه فيأخذ بيده ويقبلها ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يجل أبي بن كعب إجلالاً عظيماً ويقول: أبي سيد المسلمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في المسند-: (وأقرؤهم أبي)، وكان يجمع الناس عليه.

وعمر بن الخطاب له هيبته وجلالة قدره ومكانته، فكان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقول: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر سؤالاً ولم أستطع من هيبته ومن إجلال قدر عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا في سلفنا كثير، فـ أحمد بن حنبل كان يوقر الشافعي، فقد كان أولاً ينهى الناس عن الشافعي، وكان يحسب أن الشافعي كان ينشغل بالقياس والرأي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعدما علم الشافعي وجلالة قدر الشافعي كان يسير خلف بغلة الشافعي، فينكر الناس عليه ويقولون: أنت تنهى الناس عن الشافعي وتمشي خلف البغلة! قال: اسكتوا، والذي نفسي بيده! لو مشيت خلف البغلة لتعلمت من الشافعي علماً، يجل قدره.

وفي السير أن الشافعي لما نزل في بلد أحمد كان بيته مقابلاً لبيت أحمد، فكان لا يمد رجله إلى مقابل هذا البيت الذي يسكنه الشافعي؛ أدباً وإجلالاً لقدر الشافعي، فكانوا يعرفون أقدار بعضهم.

وهذا يحيى بن معين علم من أعلام الأمة، رجل ترتعد فرائص المحدثين بوجوده؛ لأنه يكتب الجرح والتعديل، وعلي بن المديني كان يقف بجانب يحيى وإمام أهل السنة والجماعة يقفون الثلاثة وكان يجلس يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن المهدي، قال العلماء: إن وثق ابن القطان وابن مهدي أحداً فعضوا عليه بالنواجذ، فكان يقف أحمد ويقف يحيى بن معين وعلي بن المديني وهؤلاء أعلام الأمة يقفون أمام ابن القطان كالأطفال لا يتجرأ أحد منهم أن يسأل ابن القطان.

ودخل ابن المبارك على المعتمر بن سليمان وكان يحدث الناس فسكت، فقام الطلبة فقالوا: أكمل حديثك، فقال: نحن لا نتحدث عند كبرائنا.

وكان الثوري جالساً في مجلس التحديث فدخل عليه أبو حنيفة فقام الثوري فقال الطلبة: لم تفعل ذلك؟ فقال: إن لم أقم لعلمه قمت لسنه؛ احتراماً لأهل العلم وتوقيراً لجلالة قدر العلماء، فطالب العلم -ورب السموات- لن يصل إلى العلم إلا بإجلال العلم وإجلال العلم لا يكون إلا بإجلال حملة هذه الشريعة.

قال بعض السلف: اجعل أدبك دقيقاً، واجعل علمك ملحاً، فلابد لطلبة العلم أن يتصفحوا التاريخ وينظروا في سير العلماء وكيف كانوا يوقرون العالم؛ ويعرفون منزلته وفضله.