للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على الشبهة الأولى وهي احتجاجهم بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)]

الرد على الشبهة الأولى وهي قولهم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ} [البقرة:٢٥٦] أن نقول: إن هذه الآية فيها ستة أقوال عند المفسرين: فمنهم من قال: هذه الآية منسوخة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل العرب على الدين فأكرههم على الدين.

والتفسير الثاني: أنها باقية، لكنها خاصة بأهل الكتاب، يعني: لا تكرهوا أهل الكتاب على الدين، ولكن خذوا منهم الجزية إن دفعوها، وغير أهل الكتاب فاقتلوهم وأكرهوهم على الإسلام على قول الجمهور، لكن الإمام مالكاً يرى أن الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى والكفار عامة.

التفسير الثالث: أنها خاصة في امرأة نصرانية كانت كلما أنجبت مات ابنها، فانتظرت الإنجاب لتجعله يهودياً أو نصرانياً، فلما جاء الإسلام وقد جعلت الولد يتنصر أرادت أن تكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦] أي: إن أحب الإسلام دخل فيه وإن لم يحب الإسلام لا يدخل فيه.

وهذا قول ابن عباس، وقال القرطبي وهذا أوجه ما يقال في هذه الآية؛ لأن هذا قول بحر الأمة وحبرها الذي علم التأويل والتفسير، وهذا لا يمكن أن يكون من بنات أفكاره، بل هو مرفوع، وهذا هو سبب النزول وفيه نظر، لكنه أقوى الأقوال.

التفسير الرابع: أن الآية فقط إرشاد إلى أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦] أي: أن الدين واضح جلي وكله براهين، والعقل السليم السديد يقبله، ولا يمكن أن يكره على أن يدخل فيه صاحب القلب الصادق النقي، ولم تتعرض الآية لا لسيف ولا لقتال ولا لغيره، وهذا ترجيح السعدي، وهذا كلام من الجودة بمكان.

فهذه التفاسير كلها لا تثبت ما قالوه ولا ما زعموه.

وقولهم: إن قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦] يعارض (من بدل دينه فاقتلوه)، فقدموا الآية على الحديث؛ لأن الآية قطعية الدلالة، والحديث ضد الدلالة، الرد عليهم فيه من وجوه: الوجه الأول: استدلالكم بالآية على الإسلام وغير الإسلام: فالمسلم الذي يرتد لا إكراه عليه، والكافر الأصلي لا إكراه عليه، هذا استدلال بالعموم، لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) خاص، وباتفاق أهل الأصول أنه لا تعارض بين عام وخاص، فإذا وجد العام والخاص قدم الخاص على العام، إذاً: فنقدم هذا الحديث (من بدل دينه فاقتلوه) على الآية، فهذه الآية يعمل بها في دائرتها كلها إلا في الإسلام، فلا نكره اليهودي على دخول الإسلام، ولا نكره المجوسي على دخول الإسلام، ولا نكره عباد البقر وغيرهم على دخول الإسلام، ولا نكره النصراني على أن يدخل الإسلام، فإن شاء أن يكفر فليكفر، وإن شاء أن يؤمن فليؤمن، وأما المسلم -خصوصاً إذا دخل الإسلام- فلا؛ حتى لا نفتح باباً للمنافقين والذين يريدون أن يشوشوا على هذا الدين، فهذا هو دأب الكافرين قال الله تعالى مبيناً أن هذا هو دأب الكافرين: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:٧٢]، وعلة هؤلاء حين يفعلون ذلك أن يرتد المسلمون عن دين الله، فلا نفتح الباب لمثل هؤلاء.

إذاً: فنقول: هذه حالة خاصة في المسلمين فقط، فمن كان مسلماً فلا بد أن يكره على دين الإسلام ويبقى عليه ولا يخرج منه، وإن خرج فدمه حلال كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن ذلك الاستدلال غير صحيح، بل الآية التي يحتجون بها خاصة بالكافرين وليست في المسلمين، فإن أفضل التفاسير هو تفسير القرآن بالقرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، فالسياق والسباق يفسر لنا أن هذا أمر من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكفر: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩].

إذاً: فالسياق يبين لنا أن هذه الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦]، كقول الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، وأنهما في الكفار، فالسياق يبين أنها خطاب للكفار وليست خطاباً للمسلمين الذين ارتدوا، فالآيتان خاصتان، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام لأهل مكة قال: لكم دينكم)، فيخاطب الكفار، فالآيتان خاصتان بالكفار، والأحاديث خاصة بالمسلمين فلا تعارض بحال من الأحوال.

وقولهم: الدلالة القطعية تقدم على الدلالة الظنية، نقول: هذا حق أريد به باطل؛ لأنه لا تعارض، فالآيات عامة والأحاديث خاصة فتقدم، أو الآيات خاصة بالكافرين، والأحاديث خاصة بالمسلمين فلا تعارض، فلا يقدم قطعي على ظني، ولا بد أن نأخذ بهذا الحديث.