للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ألطاف الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم]

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:١]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]، لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، ويرى مخ سوقها سبحانه جل في علاه، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٠٣].

أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا أسماء الله الحسنى، وكيف نتعبد بها، ثم حثنا على حفظها والعمل بها وتعليمها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، أي: من تعبد الله بها دخل الجنة، ومن تدبرها دخل الجنة، وقد تدبرها قبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقها واقعاً، فأتته المبشرات نتيجة لهذا التطبيق الواقعي في حياته صلى الله عليه وسلم.

انظر إلى ألطاف الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكالبت الدنيا بأسرها عليه، فهذه قريش والعرب أجمعون رموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن قوس واحدة، أجج اليهود نار الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب أجمع، فاليهود هم الذين عاثوا في الأرض فساداً، وأرادوا ناراً مؤججة على رسول الله حقداً عليه وحسداً، ألبوا قريشاً وألبوا العرب جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا بخيلهم ورجلهم، وجاءوا بصناديدهم وسيوفهم وحديدهم، فالتفوا حول المدينة وأحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم شر إحاطة، ثم بعد ذلك نزل الكرب الشديد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، حيث صور لنا الله الموقف تصويراً بديعاً، وصفهم أنهم جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وقال المؤمنون: ما وعدنا الله ورسوله إلا صدقاً وحقاً، أما المنافقون فقد ضربوا رسول الله من الداخل، جاء الطابور الخامس يرجفون في المدينة ويشيعون الإشاعات بأن رسول الله مهزوم حتماً، كانوا يقولون: هذا محمد الذي كان يعدنا بالنصر على الأعداء، ويعدنا بالتمكين في الأرض، ويعدنا بكنز كسرى وقيصر، يعدنا بهذا كله وأحدنا لا يأمن أن يخرج لقضاء حاجته، أين النصر الذي وعدنا به؟! فهؤلاء هم الذين ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل المدينة، أما من الخلف فقد جاء اليهود فنقضوا العهود؛ لأنهم لا عهد لهم ولا وعد، فقد قام بنو قريظة بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد الكرب على رسول الله، وقال لـ سعد بن عبادة: (اذهب فأخبر لنا خبر القوم، فإذا علمت أنهم فعلوا ذلك فالحن لي لحناً، حتى لا تفت في عضد أهل الإسلام، فذهب فوجد أن القوم قد نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسل)، انظر أخي الكريم! إلى هؤلاء الكفار كيف أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جميع الجهات، وهم قلة ضعاف لا يستطيعون حرباً ولا يستطيعون قتالاً، لكن ألطاف الله جل في علاه، وتدبير الله في كونه من فوق عرشه سبحانه وتعالى، فقد أدرك الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته الكرام في المدينة بألطافه، فإنه يدبر من حيث لا يحتسبون، فكلنا يعلم أن نعيم بن مسعود أسلم بعدما كان أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد قلب اللطيف قلبه إلى الإسلام، فأسلم وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماذا يفعل من أجل أهل الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذل عنا الناس ما استطعت)، فقام نعيم بتدبير الله ولطفه ففرق بين اليهود والكفار، فقد ذهب إلى قريش فألبهم على يهود بني قريظة، وذهب إلى يهود بني قريظة فألبهم على قريش، وانفض الحصار من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد الله الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً، ألطاف الله جل في علاه برسوله صلى الله عليه وسلم حينما حفر الخندق، وهو في هم وغم وحزن مما يحدث له ولأصحابه، ومع ذلك يضرب صخرة وهو مستيقن باللطيف الخبير الذي يدبر الأمر من فوق العرش، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أبشروا! فتحت لي كنوز كسرى وقيصر، أعطيت الكنزين: الأحمر والأصفر)، والله الذي لا إله إلا هو إنا مستيقنون بربنا كما استيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه، وإنا سنعطى الكنزين: الأحمر والأصفر، وإن الله جل وعلا سيمكن لدينه في الأرض، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١]، وإني مصدق في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم)، وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع هذا الكرب العظيم وهذه الشدة التي نزلت به- ابنته فاطمة فقال: (أبشري يا ابنتي! والله لن يترك هذا الدين بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز وذل ذليل).