للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي]

فإن قيل: ما هي الأدلة التي تدل على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي؟ فنقول: الأدلة على ذلك كثيرة من الأثر ومن النظر.

أما من الأثر: فقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ} [آل عمران:٣١]، أي: إن كنتم تتقربون إلى الله بمحبته وبمحبة رسوله فعليكم باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاحتفال، ولو كان من سنته لعمله الصحابة أو عمله التابعون، أو عمل به الذين تابعوهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأيضاً: قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:٣٢]، فهل أمر الرسول بالاحتفال بمولده؟ وهل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاجتماع له، وإطعام الطعام، وفعل ما يُفعل احتفالاً بمولده؟

الجواب

لا والله ما أمر الرسول بذلك! فنحن مأمورون بأن نأتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نبتدع في دينه؛ لأن الله جل وعلا قال منكراً على النصارى الذي يجتهدون في العبادة بدون أدنى دليل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧].

أيضاً من الأدلة الأثرية: ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

قوله: (أحدث) أي: يتعبد لله بعبادة لم يأت بها، ولم يأمر بها في كتابه ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والاحتفال بالمولد لم يأمر الله به في الكتاب، ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، فهو إذاً بدعة ضلالة مردودة على صاحبها.

ومن الأدلة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية قال: (وكل ضلالة في النار).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي)، أي: ألزمكم أن تأتموا بسنتي، أن تستنوا بسنتي ولا تتعدوها، وأن تستنوا بسنة أصحابي، ولذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنة بعد سنته إلا سنة الصحابة رضوان الله عليهم، وبالأخص الخلفاء الراشدين، ولذلك قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهل الخلفاء الذين هم أخلص لرسول الله، وأحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتبع لسنته، وأطوع لأوامره احتفلوا بمولده؟ وهل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه جمع الناس للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل فعل ذلك عمر؟ وهل فعل ذلك عثمان؟ وهل فعل ذلك علي بن أبي طالب؟ وسعد بن أبي وقاص؟ والزبير وبقية العشرة المبشرين بالجنة؟ فإذا لم يفعلوا، ألا يسعكم ما وسع الصحابة؟ وهل أنتم أفقه بشرع رسول الله من صحابة رسول الله؟! وهل أنتم أخلص حباً لرسول الله من صحابة رسول الله؟ لو كان خيراً لسبقونا إليه: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف إن كنتم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان فأنتم وأنفسكم، وحسابكم على الله جل وعلا، وإن قلتم: لا، فيسعكم ما وسع الصحابة، فاجلسوا كما جلسوا، واحتفلوا كما احتفلوا بمولده صلى الله عليه وسلم، وسنبين كيف احتفلوا بمولده عليه الصلاة والسلام.

ومن الأدلة التي تبين حرمة الاحتفال بالمولد النبوي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فالعلاقة بين هذا الحديث وبين الاحتفال بالمولد النبوي علاقة وطيدة، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً منكراً: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، وفي رواية: (حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول اللهَ! اليهود والنصارى؟ قال: فمن).

أي: فمن غير هؤلاء الناس؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم).

بل وحشر معهم، والنصارى هم الذين اخترعوا وابتدعوا في دينهم عيد ميلاد المسيح، ونحن إذا احتفلنا بعيد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فنكون قد تشبهنا بهم، ووقعنا في النهي الصريح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فإن هذا نهي صريح، وهو خبر يراد به الإنشاء، أي: لا تتشبهوا بهؤلاء.

وأما من النظر فمن وجهين: الوجه الأول: أن إيمان العبد لا يستقيم إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والعبد إنما يتقرب إلى الله بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال -كما في الصحيحين- (ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم كل الحرص على أن يرشد الأمة إلى ما ينفعها وإلى ما يقربها إلى الله جل وعلا كما بين ذلك أكثر الصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً يقربهم إلى ربهم إلا ودلهم عليه، وما ترك شراً يبعدهم عن ربهم إلا حرم عليهم ذلك الشر، وأرشدهم إلى البعد عنه.

فهل يعقل أن النبي الكريم لا يرشد الأمة إلى تعظيمه ومحبته حتى يتقربوا بها إلى الله جل وعلا؟ فلو كان الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من مظاهر محبته ولم يرشدنا إليه فقد قصر صلى الله عليه وسلم وحاشاه! ولو كان الاحتفال بمولد النبي يدل على محبة النبي صلى الله عليه وسلم فقد قصر أبو بكر في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قصر عمر وعثمان وعلي.

فلما لم يُبلِّغ النبي صلى الله عليه وسلم ويرشدنا إلى ذلك، ولما لم يفعل الصحابة ذلك دل على أنه ليس من مظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماع وإطعام الطعام والاحتفال بالمولد النبوي على هذه الطريقة المبتدعة المحدثة.

الوجه الثاني: باب سد الذرائع، وحسم المادة، وإغلاق الوسائل إلى المحرمات، فإن الاحتفال بالمولد النبوي يؤدي إلى اختلاط النساء والرجال، وهذا يفضي إلى مفسدة عظيمة، ويفضي إلى محرمات منكرة من وجوه: الوجه الأول: اختلاط الرجال بالنساء.

ويُعرف هذا في مصر التي هي من أكثر البلاد التي تعرف الموالد، فإنه يشتهر فيها اختلاط النساء بالرجال، مع شرب الدخان، والرقص والتمايل، والكلام الذي يغضب الرب جل وعلا، وهذا بدافع الاحتفال بمولد النبي، ومحبة وتعظيم النبي والولي.

الوجه الثاني: أنه ينتج عن هذه الاحتفالات الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعة من مرتبة النبوة إلى مرتبة الربوبية.

فهم في يوم الاحتفال بالمولد النبوي يأتون بالقصائد والمدائح، ويغلون في النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).

ولما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا.

أو قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان).

فمنع من الإطراء والغلو فيه صلى الله عليه وسلم.

ولذلك تجد في الاحتفالات القصائد والمدائح التي فيها الغلو برسول الله إلى مقام الربوبية، بل إلى مقام الألوهية، وقصيدة البردة شاهدة على ذلك، وكثير منهم يتلو هذه القصيدة أمام الناس دون أدنى حياء من هذا الشرك المميت، يقول صاحب البردة: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم قال ابن رجب معقباً على قول هذا الرجل: ما ترك لله شيئاً! قوله: (من جودك الدنيا وضرتها) أي: أن الدنيا والآخرة -في زعمه- من جود النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ومن علومك علم اللوح) أي: اللوح المحفوظ والقلم، فأين علم الله جل وعلا؟! وأين ملك الله جل وعلا؟! فهذا غلو يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الربوبية، بل إلى الإلهية، ناهيك عن أنهم يقولون: بأن النبي لم يخلق من طين، فهو ليس كالبشر، بل خلق من نور، إلى آخر هذه المفاسد التي تصل بهم إلى الشرك، فهم يشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويرتقون به من منزلة البشرية إلى منزلة الربوبية.

الوجه الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره ومحبته لا تظهر إلا في يوم واحد، وهو اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الاحتفال في شهر ربيع من كل عام تظهر محبة النبي، ويظهر تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره بإقامة السرادقات، وإطعام الطعام وإنشاد هذه القصائد والمدائح، ثم بعد ذلك لا سنة تتبع، ولا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا توقير لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إذا جئت لأحدهم وقلت له: قال رسول الله كذا وكذا.

فإنك تجده يضرب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، ويأخذ بقول شيخه والعياذ بالله! فأين محبة رسول الله؟ وأين تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأين توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهذه الأدلة الأثرية والنظرية تحرم الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة: الاجتماع في المساجد، وإطعام الطعام، وإنشاد القصائد والمدائح، واختلاط النساء بالرجال.

<<  <  ج: ص:  >  >>