[إشارات في وفاة الشيخ ابن باز]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: خابت وخسرت أمة لا تعرف قدر رجالها، خابت وخسرت أمة لا تعرف قدر علمائها، فلما ماتت هذه الفاجرة التي تفعل الفاحشة ديانة وأراحنا الله منها ومن نتن سيرتها لم تنقطع الصحف عن الكلام عنها، ولما مات عالم الأمة العلامة ابن باز ما تكلم عنه أحد إلا النزر اليسير.
إن هذا العالم كان لنا كالشمس للدنيا، بل شمس دنيانا قد غابت، وكما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما روى مسلم في صحيحه: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، فهذا العالم الجليل أفنى عمره وقفاً لله جل وعلا، وباع نفسه لله، هكذا يجب أن يقال في الخطب وعلى المنابر، وقد قضى عمره في العلم والتعليم والإفتاء.
ووالله الذي لا إله إلا هو والله وبالله وتالله إن الأمة تحتاج لمثل هذا الرجل أشد من حاجتها للماء والهواء، فخير الناس وأفضل الناس هم العلماء ورثة الأنبياء، (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم).
لقد جمع هذا العالم الجليل بين العلمين: علم الفقه وعلم الحديث، ويقوى المرء كل القوة إذا جمع بين هذين العلمين، كما قال الشافعي: من أراد أن تقوى حجته فعليه بالحديث، ومن أراد أن يرجح عقله فعليه بالفقه، وقد جمع هذا الرجل بين العلمين: علم الفقه -أي: فقه المتن- وهو رأس الأمر، والأمة بأسرها تحتاج لفقه المتن؛ لتعلم الحلال من الحرام.
وأيضاً انشغل بعلم الحديث والإسناد، ويقال: إن الرجل كان يحفظ جل رجال كتاب التقريب للحافظ ابن حجر عليه رحمة الله.
وهذا الرجل باع نفسه لله وأوقف نفسه لله، فتجد كثيراً من الرجال وكثيراً من النساء يبعثون له برسائل يحتاجون إلى الفتوى، ويحتاجون إلى المال، فما كان يترك مالاً عنده قط مع أن راتبه حوالي الستين ألف ريال، بل كان في كل شهر مديناً؛ لأنه كان ينفق كل هذه الأموال في سبيل الله عليه رحمة الله، أسأل الله العظيم أن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء.
فهذا العالم الجليل لا بد علينا أن ونتحدث بفضائله ليل نهار، وكذلك له علينا وفي رقابنا أن ننشر علمه بين الناس، وذلك بتوزيع الشريط، أو بتوزيع رسائله كفتاوى نور على الدرب، ومجموع الفتاوى والرسائل، فعلى كل من قواه الله بمال أو بعلم بأن ينشر علم هذا الرجل وينشر فتاواه.
والرجل له تلاميذ كثر، ومن أبرز تلاميذه الشيخ العلامة الجليل ابن عثيمين الذي يتحدر العلم منه، وقد سمعته وهو يقول: استفتاني بعض طلبة العلم في أمر الاعتكاف وكان في المسجد الحرام، على أنه ينزل من باب ويذهب من باب آخر؛ ليسهل عليه استماع دروس الشيخ.
فقال الشيخ ابن عثيمين: فأفتيته أنه لا شيء عليك، ثم تراجعت وخفت على نفسي أن أكون قد أفتيته بغير علم.
الله أكبر هذا هو الورع.
قال: فسألت شيخي الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: ما قلت أنت هو الحق، قال: فاطمأن قلبي؛ فإن الرجل جهبذ، وبحر في العلوم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يسكنه فسيح جناته، فعلى كل امرئ يسر الله له بالمال أن يطبع رسائل هذا الرجل ويوزعها مجاناً للناس لتقرأها، وعلى كل من يسر الله له العلم أن يعلِّم الناس ويشرح لهم بعض كتب هذا العالم الجليل.
فنسأل الله تعالى أن يشرفه على الصراط أمام الخلق أجمعين، وأن يجعله مع النبيين والشهداء والصالحين اللهم، آمين يا رب العالمين!