[القلب المنيب من صفات أهل الجنة]
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الحمد الذي لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره.
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين: أما بعد: فيا أمة محمد! أنتم الذين بشركم الله بالجنان، وبشركم بمرافقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأنتم في هذا الشهر الكريم الفضيل الذي أغلق الله فيه أبواب النار، وفتح فيه أبواب الجنة، فسارعوا إلى ربكم واتصفوا بهذا الصفات حتى تكونوا من أهل الإيمان.
الصفة الرابعة من صفات من يكون من أهل الجنة أنه صاحب قلب منيب، قال عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:٣١ - ٣٣].
وصاحب القلب المنيب الرحيم هو الذي يبكي إذا سمع كلام الله جل وعلا، وهو الذي يتذكر إذا ذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير) أي: من التوكل، أو من الرقة والرحمة، والحديث أخرجه مسلم.
فصاحب القلب السليم يعلم أن الله جل وعلا جعل له كرامته، والقلب هو محل الكرامة، وبه تتم السعادة، وبه يفرق بين البر والفاجر، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).
وقال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:٢٥]، وقال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:٧٠].
فصاحب القلب المنيب قلبه من النقاء بمكان، فلا يحسد، وليس في قلبه دغل ولا ضغينة، وقلبه من النقاء بمكان، وقد عكف قلبه على طاعة الرحمن، وعلى محبته والإقبال عليه والإخبات له، وقد تخللت طاعة الله ومحبته مسالك روحه، وما ترك في قلبه لأحد شيئاً، كما غار الرحمن على قلب خليله إبراهيم عندما ولد له الولد فأخذ حظاً من قلبه، فابتلاه الله جل وعلا بذبح ابنه؛ ليختبر صدق حبه لله، فلما قال: سمعت وأطعت، ارتفع عند ربه وارتقى.
فصاحب القلب المنيب ما ترك في قلبه لأحد شيئاً، فلا يحب إلا ما أحبه الله، ولا يبغض إلا ما أبغضه الله، ولا يقرب إلا ما قربه الله، ولا يبعد إلا من أبعده الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يأخذ إلا لله، ولا يمنع إلا له، وهو يوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا هو صاحب القلب المنيب.
وصاحب هذا القلب يمشي على الأرض بين الناس وهو مغفور له، ومبشر بالجنات، كما في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة وهو يمشي على الأرض، فاندهش عبد الله بن عمرو بن العاص؛ كيف يكون رجل يمشي على الأرض ويبشر بالجنة! فـ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يسارع في الخيرات ذهب إليه، وقال له: يا هذا! كان بيني وبين أبي شيء وأريد أن أبيت عندك -أي: حتى ينظر في طاعته- فلما أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قال: الآن يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ لأنه رجل بشر بالجنة، فما وجد ذلك، فقال في النهار: يصوم النهار، فظمأ النهار جُنة من النار، فنظر إليه فوجده يأكل طعامه، فقال: يا هذا! والله! ما كان بيني وبين أبي من شيء، ولكني سمعت رسول الله يبشر أنك من أهل الجنة، فنظرت في أعمالك فما وجدت صياماً ولا قياماً! فقال: هذا ما رأيت، أو قال: والله! ما عندي من كثير صلاة ولا صيام، ولكني أبيت وليس في قلبي على أحد شيء)، فلا يحمل ضغينة ولا حسد، هذا هو صاحب القلب المنيب الذي بين الله أن صاحب هذه الصفة من أهل الجنان.
إن صاحب القلب المنيب الذي يبشر بالجنة خلقه الله للسيادة والريادة في الدنيا قبل الفوز في الآخرة، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تقدم على الناس أجمعين بما وقر في قلبه، وبقلبه السليم النقي، قال عبد الرحمن بن عوف: ما سبق أبو بكر القوم بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بما وقر في قلبه، فقد جاء بقلب منيب.
ولا ينجو أحد يوم القيامة يوم يتزلزل الناس إلا صاحب القلب السليم.
فإذا اتصف العبد بهذه الصفات فإنه يستحق بذلك الجنان بفضل الله عليه ورحمته، فيستحق دخول الجنة بسلام، ويحل عليه الرضوان، وينظر إلى وجه الرحمن، ويرافق النبي العدنان، قال جل وعلا بعدما أجمل وفصل وبين لنا صفات أهل الجنان: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:٣٤].
نسأل الله جل وعلا أن يخلدنا في الجنان، وأن يجعلنا مع النبي العدنان، ونسأل الله جل وعلا أن يحلينا بصفات أهل الجنان.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان.
اللهم اجعل هذا الشهر الكريم شاهداً لنا لا علينا، وفرج فيه الكروب، واستر فيه العيوب، إنك أنت علام الغيوب.
اللهم أدخلنا الجنان بسلام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، واجعل الخير على أيديهم، واجعلهم خيراً على رعاياهم يا رب العالمين!