للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أهل الفترة وأقوال أهل العلم فيهم]

أهل الفترة هل هم من الذين كتبهم الله جل في علاه من الناجين أم من المهلكين؟ وبمعنى آخر: هل هم من الكفار وسيكونون مع الكفار يوم القيامة أم أنهم من المؤمنين وسيكونون مع المؤمنين يوم القيامة؟ وكذلك ما حكم أطفال المسلمين وأطفال المشركين؟ أما أهل الفترة فإن فيهم لأهل العلم قولان: وقبل أن نذكر القولين لا بد أن نعرف أولاً من هم أهل الفترة؟ أهل الفترة هم الذين فتر عنهم الوحي، أي: انقطع عنهم الوحي، وهم مثل القوم الذين عاشوا بين عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم، فمعلوم أنهم لم يأتهم النذير، لا الموحى إليه وهو النبي، ولا المبلغ عنه وهم العلماء.

فهل هم من المؤمنين أم من الكفار؟ اختلف العلماء في حكمهم على قولين: القول الأول وهو قول جمهور أهل العلم: أنهم في الجنة، أو قالوا: ليسوا بمخلدين في النار، واستدلوا على ذلك بأدلة: الأول: قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، فهذه الآية قاطعة فاصلة في النزاع بأن أهل الفترة ليسوا من أهل النار.

ومفهوم المخالفة هو وجه الدلالة، إذا قال الله: إننا سنعذب إذا جاءت الرسل، فيكون إن لم تأت الرسل فلا تعذيب.

الثاني: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].

الثالث: قوله تعالى في سورة النساء: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨]، ولا أحد يستطيع أن يقول للكافر: كافر إلا إذا جاءته الحجة فكفر بها.

الرابع: قال الله تعالى مبيناً الحكمة من إرسال الرسل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].

وهذه الآية صريحة جداً في أن أهل الفترة ليسوا من أهل النار؛ لأنه إذا لم يكن هناك رسل، فلهم الحجة عند الله جل في علاه يوم القيامة.

القول الثاني وهو لبعض العلماء وعلى رأسهم الإمام النووي قالوا: لا نوافق على هذا القول؛ لأنه من الضعف بمكان، بل عندنا الأدلة الخاصة التي تثبت أنهم من أهل النار، ومنها: أولاً: قال الله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨]، وهم كفار قد كفروا بالله جل في علاه.

ثانياً: قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] وهذا الدليل عام، وهو مخصوص بالحديث الذي في صحيح مسلم عندما دخل رجل فقال: (يا رسول الله أين أبي؟ فقال: أبي وأبوك في النار).

وهذا دليل فاصل في النزاع؛ لأن أبا النبي صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب الفترة، وكذا أم النبي صلى الله عليه وسلم كانت في عصر الفترة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فذهب للقبر فبكى وبكى من حوله).

ثالثاً: حديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سألت عن عبد الله بن زيد بن جدعان وقالت: (يا رسول الله كان يكرم الضيف ويصل الرحم ويصنع المعروف، فما له عند الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ما قال يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وهذه دلالة على أن أهل الفترة في النار.

أما أدلة الجمهور، فالرد عليها كالآتي: أما قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، فنحن نقول: نفى الله العذاب عنهم في الدنيا لا في الآخرة، فهذا خاص بالدنيا دون الآخرة، وعذابهم في الآخرة موجود.

فرد الجمهور على ذلك مستدلين بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:٨ - ٩]، فكل فئة، وكل طائفة في كل زمان ومكان إذا دخلوا النار سألهم الخزنة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا} [الملك:٨ - ٩] وقولهم: {قَالُوا بَلَى} [الملك:٩] قاطعة بأنه لا فترة الآن؛ لأنهم قالوا: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:٩] فهذه آية عامة.

فرد عليهم: بأن هذه آية عامة والمراد بها الخصوص فيمن أرسل إليهم الرسل، ونزاعنا فيمن لم يرسل إليهم الرسل.

رابعاً: ميثاق الفطرة، حين مسح الله على ظهر آدم، فأخرج كل الذرية ووقفوا أمام ربهم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] فشهدوا بربوبية الله جل في علاه، فكان هذا الميثاق حجة عليهم بأنهم أقروا بربوبية الله، فلا يعذرون بالشرك في الربوبية سواء بعث الرسول أم لم يبعث، فهم مطالبون بأصول الشريعة وهو التوحيد الخالص لله جل في علاه.

والراجح من القولين هو القول الأول وهو قول الجمهور، فإن أهل الفترة ليسوا من أهل النار، والدليل على ذلك عموم قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، وعموم قول الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:٨]، وأيضاً عموم قول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] فالحجة مرتبطة ومناطة بالرسل، فإذا فقد الرسول فلا حجة، وإذا وجد الرسول وجدت الحجة، والله لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، وما كان الله ليظلم قوماً أبداً حتى يبعث إليهم رسولاً يبين لهم طريق القويم الطريق النجاة وطريق الهلاك.

أما أدلة القول الثاني فالرد عليها كما يلي: أولاً: زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن فترة ولا فترة بمعنى أن أشخاصاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانوا من أهل الفترة وآخرين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا من أهل الفترة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:١ - ٣].

فالآية دليل على أن زمن النبي الذي سبق البعثة زمن فترة؛ لأن الله نفى أن يكون قد أتاهم نذير، ولما لم يأتهم النذير لا بالوحي ولا بالبلاغ فهم من أهل الفترة.

أما الدليل على أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن فترة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة دخل الكعبة فوجد تصاوير لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانوا قد صوروهما يستقسمان بالأزلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذبوا والله لقد علموا ما استقسما بالأزلام قط)، فعُلم أنهم قد بلغتهم رسالة إبراهيم.

وبالنظر في الدليلين: الآية التي تثبت أنه ما أتاهم من نذير، والحديث الذي يثبت أنهم يعلمون من حنيفية إبراهيم وأنهم أتاهم النذير، نجمع بين الآية والحديث بحيث يدرأ التعارض الظاهر فيقال: الآية تثبت عدم النذير لأشخاص معينين، والحديث يثبت أن هناك أشخاصاً علموا دين إبراهيم عليه السلام فلزمهم دين إبراهيم، فلما أشركوا لم يكن لهم العذر عند الله جل في علاه، ويتضح هذا الجمع جلياً في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة لهم الحجة عند الله: رجل أحمق، ورجل أصم، ورجل هرم، ورجم من أهل الفترة، فأما الأحمق فيقول: رب جاءني رسولك ولم أعلم عن قوله شيئاً -أي: لم أفهم منه شيئاً- وقال الهرم: رب جاءني رسولك ولا أعقل عنه شيئاً -والهرم من وصل إلى أرذل العمر-، ويقول الأصم: رب جاءني رسولك ولم أسمع شيئاً، وقال صاحب الفترة: رب لم يأتني رسولك)، فيوجد ثلاثة أصناف قالوا: جاءنا الرسول لكن الحجة لم تبلغ، وهذه تجعل طالب العلم يدقق النظر، وأن المسألة ليست في الرسول فقط كما يعتقد التكفيريون؛ لأنه لو قيل لأحدهم: هذا رجل طاف بالقبر لأفتى بكفره وأحل دمه! والحق أن يقال: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، لكن لا نكفره حتى نقيم الحجة عليه، ونزيل الشبهة، ولو قيل: من يقيم الحجة؟ نقول: الرسل، فإن رد: قد ماتوا؟ فهنا يجاب بما جاء في الحديث من أن ثلاثة ممن جاءهم الرسول نفوا الحجة، فدل على أن الحجة هي المهمة، وأن الأصل قيام الحجة سواء أقامها الرسول أو أقامها من ناب عن الرسول.

أما الرابع فقال: ما جاءني الرسول فعد من أهل الفترة، ولم تقم عليه الحجة، وهذا الحديث ظاهر جداً فاصل في النزاع بأن صاحب الفترة له الحجة عند الله.

(فقال الله تعالى إذا أخذت عليكم المواثيق تقرون وتسمعون وتطيعون؟ قالوا: سمعنا وأطعنا، فيأمرهم جميعاً أن يدخلوا نار جهنم، فإذا دخلوها كانت برداً وسلاماً عليهم، وإن لم يدخلوها فهم من أهل النار وبقوا فيها، والله أعلم بما كانوا عاملين)، والحديث صحيح.

فتعين أن القول الفصل في هذه المسألة أن أهل الفترة غير معذبين لكنهم مكلفون يوم القيامة، حيث يختبرهم الله جل في علاه ويأمرهم بدخول النار، فإذا دخلوا النار كانت برداً وسلاماً عليهم كما كانت على إبراهيم عليه السلام ثم مآلهم إلى الجنة، وإن عصوا بقوا في النار خالدين فيها؛ لأنهم عصوا الله جل في علاه، والله أعلم بما كانوا عاملين.

أما الأحاديث التي استدلوا بها على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فالإجابة عنها: أن زمن النبي قسمان: زمن فترة وزمن لا فترة، زمن فترة لقول الله تعالى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة:٣]، وهذا إقرار من المليك المقتدر بأنه لم يأت النذير لهؤلاء، وأما أم النبي وأبو النبي وعبد الله بن زيد بن جدعان فقد

<<  <  ج: ص:  >  >>