للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مخالفة أتباع المذاهب لمذاهبهم المخالفة للسنة]

وإليك نبأ القوم الذين جاءوا من بعد هؤلاء الأئمة المتعصبين لمذاهبهم، فإن من مذاهبهم أنهم يوافقون السنة إذا رأوا أنها تخالف المذهب، فمثلاً: الإمام أبو حنيفة كان يتكلم في الاستصناع ويبيحه، لكنه كان يقول أنه غير ملزم؛ لأنه يمكن للبائع أن يقول: لا أبيع لك، ويمكن للمشتري أيضاً أن يرجع عنه.

فقام صاحبه محمد بن الحسن فخالفه في الاستصناع، وكذلك أبو يوسف، وقالا: هذا للتقعيد الأثري أقوى.

والإمام مالك مذهبه: عدم الغسل بالتتريب من ولوغ الكلب في الإناء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً إحداهن بالتراب)، فكان الإمام مالك لا يقول بالتتريب؛ لعمل أهل المدينة.

فقام بعض أتباعه - أظنه الإمام أصبغ - فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول مالك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً، ويعفره الثامنة بالتراب)، فقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول مالك رضي الله عنه وأرضاه.

وكان الإمام مالك لا يرى المسح على الخفين في الحضر ولا في السفر، فقال: وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول مالك؛ فإنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز المسح على الخف في السفر يوم وليلة في الحضر، وثلاثة أيام بلياليهن في السفر.

وأيضاً كان الإمام النووي يعلم أنه لا يمكن له أن ينخلع عن مذهب الشافعي، ومع ذلك لما استبانت له السنة ترك مذهب الشافعي في الوضوء، وذلك أن الشافعي كان يرى أنه لا يجب الوضوء على الإنسان إذا أكل لحم الجزور، فقال الإمام النووي: والسنة وجوب الوضوء على من أكل لحم الجزور، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول الشافعي، بل إن الوضوء من لحم الجزور مذهب الإمام الشافعي أي: أخذه من قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

والعلماء يقولون: كل شافعي وللشافعي عليه منة إلا الإمام البيهقي، فإن له منة على الشافعي، فإنه تتبع كلام الشافعي ودلل عليه بالآثار، فكان يأخذ قول الشافعي ويأتي بالحديث الذي يؤكد ما ذهب إليه الشافعي، وعندما لا يجد سنة في قول قاله الشافعي فإنه يرجع الأمر إلى السنة.

فمثلاً: كان الشافعي يرى أن الوضوء ينتقض بلمس المرأة الأجنبية، لقول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:٤٣].

فقال البيهقي: وصحت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء.

واستدل على ذلك بحديث في السنن والبخاري وهو حديث صحيح أن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه فيذهب فيصلي ولا يتوضأ، فقال لها عروة: ما هي إلا أنت، فضحكت).

قال البيهقي: فهذه سنة قد ثبتت من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل إحدى نسائه، وذهب فصلى ولم يتوضأ فهذا مذهب الشافعي، ونقل قولاً للشافعي من أن الوضوء لا ينتقض بلمس النساء.

فهؤلاء من الذين يتبعون السنة، وقد قالوا: نعلنها صراحة وإن كان الإمام مبجلاً، وإن كان الإمام يؤخذ بقوله، فهذا عند عدم ورود الأثر، فأما إن جاء الأثر فلا قول لأحد، وإنما كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وللكمال مراتب أربع.

<<  <  ج: ص:  >  >>