وهذا موقف آخر تراه جلياً ظهر بعد ذلك لما وقع بين أبي بكر وبين بعض الأنصار مشادة، فاشتد أبو بكر على الأنصاري, ثم تراجع أبو بكر وقال: اقتص مني, أي: أنه تراجع عما فعل؛ لأن أفضل الناس -كما بين الناس النبي صلى الله عليه وسلم- من كان سريع الرضا, أي: أنه يرجع ويئوب، لأنه ما من أحد إلا ويخطئ, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، هو خطاء؛ لأنه خلق في ظلمة وجهل, فإذا ترك لنفسه العنان ضاع واتبع الشهوات, والمعصوم من عصمه الله جل وعلا, وليس عيباً على الإنسان أن يخطئ، ولكن العيب كل العيب أن يكابر ولا يرجع.
ولما قال أبو بكر للأنصاري: اقتص مني, قال الأنصاري: لا أقتص منك، فقال له أبو بكر: اقتص مني وإلا لأستعدين عليك رسول الله, فغضب الأنصار من أبي بكر غضباً شديداً؛ لأنه أغلظ على صاحبهم في القول، ثم قال له: لأستعدين عليك رسول الله، فقال الأنصار لصاحبهم: والله لنذهبن معك ولنستعدين عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يخطئ في حقك، ويذهب إلى رسول الله؟ فلما قالوا ذلك، قام الأنصاري -وكان فقيهاً- فقال لهم: أتعلمون من هذا؟ إنه أبو بكر، فاسكتوا حتى لا يسمع ما تقولون فيغضب, فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضب صاحبه, فيغضب الله لغضب رسوله، فيهلك صاحبكم.
وهذا فقه عال من الرجل؛ لأنه علم منزلة أبي بكر ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما قص على النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة قال له:(قل: يغفر الله لك يا أبا بكر)، أي: لا تقتص من أبي بكر، ولكن قل:(يغفر الله لك يا أبا بكر).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل كل ذي فضل، وينزل كل واحد منزلته.