[مذهب أهل السنة في الاحتجاج بالقدر]
فإن قال قائل: متى ينفع شهود القدر ومتى لا ينفع شهود القدر؟ نقول: شهود القدر هو قولك عندما تنزل عليك البلايا أو المحن: قدر الله وما شاء فعل.
فشهود القدر هنا ينفع المرء في حالتين، ولا ينفع في حالة ثالثة، وهذا عند أهل السنة والجماعة.
الحالة الأولى: تمحض المصيبة دون أدنى تدخل منك، إذ المصائب تأتي على نوعين: النوع الأول: مصائب بسبب الإنسان، أي: بسبب تفريطه وتقصيره ومعاصيه، كما قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَ الْنَّاسِ} [الروم:٤١]، والباء هنا سببية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: قال الله تعالى: (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، أي: أنه المتسبب في إتيان هذه المصيبة، فلا يصح له شهود القدر إلا في مرحلة سنبينها لاحقاً.
النوع الثاني: المصائب بسبب الأقدار لا من الإنسان، فعند تمحض المصيبة والبلية مع الأخذ بالأسباب الصحيحة السديدة من المكلف، فهذا له أن يشهد القدر ويحتج بالقدر، ويحيل الأمر برمته على تصرف ربه جل في علاه، مؤمناً بقدرة الله التي هي من لوازم ربوبية الله جل في علاه؛ قال الله تعالى مصوراً لنا ذلك تصويراً بديعاً: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:١١]، أي: ما من بلية ولا مصيبة تنزل على العبد إلا بإذن الله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:١١]، أي: يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل في علاه هو الذي كتب المصيبة في الأزل، وأن الله قادر على أن يوجدها فأوجدها.
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١] يعني: يثبت الإيمان في جنانه، وهو الإيمان بقدر الله جل في علاه.
فهذه دلالة على أن المصيبة المتمحضة التي نزلت على العبد إذا أحالها على قدرة الله وأحالها على القدر ينفعه ذلك عند ربه جل في علاه.
ويجلي لنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تجلية واضحة جداً في الحديث الذي في الصحيحين قال: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، يعني: لو أخذت بالأسباب الشرعية الصحيحة، وأصبتَ بمصيبة متمحضة لحكمة يعلمها الباري، فهنا يقول لك صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، وذلك لأنك ستفتح باب الشيطان، (لكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
أضرب لكم مثلاً: لو أن طالباً ذاكر مادة اللغة، ودخل الاختبار فوجدها رياضيات، أخطأ في قراءة الجدول، فلو قال في نفسه: لو أني اتصلت بزميلي لقال لي: غداً امتحان مادة كذا، هنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا)، مع أنه لو اتصل بصاحبه وقال له: مادة ماذا غداً؟ لقال له: مادة اللغة أو مادة الرياضيات، فهنا له أن يشهد القدر لأنه أخذ بالأسباب، وليس له أن يقول: لو كان كذا لكان كذا.
إذاً: فالطائفة الوسطية قالوا: نحن لم نمحض النظر في القدر ولم نمحضه في الشرع، وإنما ننظر بعين القدر حينما يكون القدر نافعاً إذا نظرنا إليه، وننظر بعين الشرع حينما يكون الشيء مأموراً به.
فإن قيل لهم: هذا التفصيل البديع الذي فصلتموه، من أين أتيتم به؟ أو اذكروا لنا مثالاً حتى نعلمه؟ قالوا: مثال النظر بعين القدر: إذا نزلت المصيبة بعد الأخذ بالأسباب الصحيحة يصح لك أن تقول: ربي فعل بي ذلك، وأنا شاكر له وراض عنه، أو صابر على قدره.
وأما مثال النظر بعين الشرع، فلا بد أن أعلم أن هذا الشيء إما أن يكون مأموراً بفعله، أو منهياً عنه، فأعمل العمل وفقاً للأمر والنهي.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي)، يعني: الذي يأخذ بالأسباب، وقوله: (اعقلها وتوكل) يعني: الذي يأخذ بالأسباب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى الناس وأقواهم يقيناً بربه، ومع ذلك عند الهجرة أخذ دليلاً خريتاً ماهراً، وكان يعمي على الناس إذا أراد غزوة؛ لأنه يعلم أن المؤمن القوي هو الذي يأخذ بالأسباب مع الاعتقاد الجازم بأن الله هو مسبب الأسباب (وفي كل خير، احرص على ما ينفعك)، هذا أمر، فبعد أن جاء بالخبر: (المؤمن القوي)، جاء ليؤكد الخبر بالأمر.
قوله: (احرص على ما ينفعك)، يعني: خذ بالسبب، وقوله: (فإن أصابك)، يعني: إذا أديت ما عليك بعين الشرع، الذي هو الأمر والنهي، وأخذت بالأسباب وجاءت المصيبة (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل)، في هذه الحالة ينفعك شهود القدر، وتقول: ربي فعل بي ذلك وأراد بي ذلك، وأنا وقف لله، يفعل بي ما يشاء، فتقول: (قدر الله وما شاء فعل).
إذاً: فشهود القدر ينفع بعد أن يأخذ الإنسان بالأسباب، لا أن يعصي الله أو يزني ثم يفتح باب القدر ويقول: ليس لي فعل، بل الله هو الفاعل.
الحالة الثانية عند أهل السنة في شهود القدر: قالوا: حتى بعد المعصية، ومثال ذلك: رجل زنى، وبعد أن زنى، قال: أذهب ليقام عليّ الحد فسمع وهو يسير قارئاً يقرأ قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠]، فقال: ولم لا أكون كذلك؟! فإذا به يبكي ويتضرع وينكسر ويتذلل ويتوب إلى الله جل في علاه ويئوب، فلما تاب إلى ربه من هذه المعصية، جاء صباحاً يصلي الفجر، فقام إليه رجل رآه يزني وقال له: أما كنت تزني بالأمس؟ وعيره بذنبه، فله هنا أن يقول: لا والله، قدر الله علي هذا الزنا، وأنا تائب منه، فله أن يشهد القدر.
إذاً: الحالة الثانية: إذا تاب من الذنب فله أن يشهد القدر، فإن قيل: كيف يشهد القدر وهو زان، وهو الذي فرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوي)، نقول: لأنه بعدما تاب رجع إلى القوة، ومن تاب تاب الله عليه، و (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، إذ أن التوبة والأوبة من أسباب القوة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أسأت فأحسن)، وقال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، فهو أتبع هذه السيئة الحسنة فمحتها، ولما جاء عمرو بن العاص يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ابسط يدك، فبسطها ثم قبضها، قال: علام؟ قال: أشترط، قال: وما تشترط؟ قال: أشترط مغفرة الذنوب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها؟!)، فالتوبة تجب كل ما قبلها، وهو قد أخذ بالأسباب القوية التي بها يقول: قدر الله وما شاء فعل.
ويدل على ذلك فعل أبينا آدم عليه السلام؛ لأن آدم تاب من الذنب، قال عز وجل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧]، فلما تاب قال لموسى: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة، فاحتج هنا بالقدر؛ لأنه قد تاب، وتاب الله عليه.