انظر إلى ألطاف الله بموسى عليه السلام، فالله أخفى حياته في موته، لأن فرعون علا في الأرض وعاث فيها فساداً، يقتل أبناءهم ويستحيي نسائهم، وفي ذلك بلاء عظيم عليهم، لكن موسى عليه السلام قدر الله له أن يعيش في بيت الذي أراد قتله، وسبب تقتيل الأبناء هو: أن فرعون رأى رؤيا، كأن ناراً أتت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت بيوت القبط ومن فيها، وبقيت بيوت بني إسرائيل، وكان بنو إسرائيل مستعبدين عند فرعون، فقد كان يستعملهم في أرذل وأحقر الأعمال، وكانوا أهل علم يتحدثون عن آثار إبراهيم عليه السلام، يقولون: إن هذا الزمان زمان نبي سيهلك الله فرعون والقبط على يديه، فتصادفت وتوافقت الرؤيا مع الأثر الذي تلاه بنو إسرائيل، فقام فرعون بإشارة من بطانة السوء فقال: اقتلوا أبناءهم واستحيوا نساءهم، فانظر إلى ألطاف الله بأنبيائه، وكيف يحيطهم برعايته، ثم قال فرعون بعد ذلك: اقتلوا الأولاد عاماً وذروا الأولاد عاماً، فالله جل في علاه قدر أن يولد هارون عليه السلام في العام الذي لا يقتل فيه الأبناء، أما موسى فإنه أروع وأقوى لطفاً عند الله جل في علاه، فقد ولد في العام الذي يقتل فيه فرعون الأبناء، فإن الله أوحى إلى أم موسى بلطف منه، قال تعالى:{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) [طه:٣٩]، انظر إلى ألطاف الله، فرعون يكيد لأبناء بني إسرائيل، يقتل الأطفال، وكان قد رأى رؤيا أن مقتله، وأن هلاك ملكه وتدمير عروشه سيكون على يد طفل وليد، هذا الطفل الوليد بعدما أمر فرعون بقتل كل أبناء بني إسرائيل رباه هو في بيته، كأن الله يقول له: يا أيها المتكبر العاتي! يا أيها المأفون المفتون المغرور بكثرة جنوده وشدة بأسه وبطشه! إن ربك لا يغالب ولا يمانع، وإن أقدار الله جل في علاه لا بد حتماً واقعة، وإن هذا الطفل الذي رمت قتله سأربيه في دارك، يأكل من طعامك، ويشرب من شرابك، وينام على فراشك، ثم يكون هلاكك وهلاك قومك على يديه، انظر إلى ألطاف الله، ففرعون بعدما دبر المكيدة لقتل موسى، رباه الله في بيته وعلى فراشه، إنه اللطيف الخبير سبحانه، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:٢١]، ثم بعدما تربى وترعرع شاباً، ثم رجلاً مدركاً بعثه الله نبياً، بشيراً ونذيراً إلى فرعون، فعتا وتكبر واستكبر، ثم جحد بآيات الله ظلماً وعدواناً، ثم بعد ذلك قال له بطانة السوء:{أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[الأعراف:١٢٧]، انظر إلى هذه الكلمة يلوكها كل الظلمة: أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، إرهاباً وتطرفاً، يا للعجب! موسى النبي الكريم هو الذي يعيث في الأرض فساداً وتطرفاً وإرهاباً! قال تعالى:{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:١٢٧]، تكبر وتجبر، ظن أنه بسلطته وجنوده وبطشه سيغلب قوة الله، والله جل في علاه لطيف خبير يستدرج من يشاء من حيث لا يعلم، إن الله جل في علاه يكيد بالكائدين ويمكر بالماكرين، فهذا فرعون استدرجه الله جل في علاه إلى هلكته، بعدما قال:{إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:٥٤ - ٥٦]، فقد أدرك موسى وأصحابه وقت طلوع الشمس، فأمامهم البحر وخلفهم فرعون العدو وقومه، ومع أن البحر مظنة الهلكة؛ فإن الغرق والموت داخله، وفرعون خلفهم، لكن انظروا إلى لطف الله فهو محيط بموسى وقومه، قال تعالى حاكياً حال أصحاب موسى:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:٦١ - ٦٢]، نظر يوشع بن نون إلى أعماق البحار فقال: هاهنا أمرك ربك؟، قال: هاهنا أمرني ربي، وجاء مؤمن آل فرعون فقال: انظر يا موسى! هذا الموت المحتم، هذا الغرق الأكيد في مياه البحار، أأمرك ربك هنا؟ قال: أمرني ربي هنا، قال تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[الشعراء:٦٣].
انظر إلى ألطاف الله جل في علاه كيف يخفي النجاة في محل الغرق، ويخفي النصر في محل الهزيمة، ويخفي اليسر في جوف العسر، سبحانه إنه هو اللطيف الخبير، قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[الحج:٦٣]، الذي أخرج الثمرة الطيبة من أرض ضحلة سبحانه وتعالى، فإنه سيخرج النور من الظلام الحالك، قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) [يس:٣٧] سبحانه جل في علاه، وقال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:١٠٣].
نسأل الله الكريم أن ينزل علينا لطفه، وأن يبرنا بكرمه وعطفه وجوده سبحانه جل في علاه.