فأما حاتم, فهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج. كان جوادا شجاعا شاعرا مظفرا, إذا قاتل غلب, وإذا غنم أنهب, وإذا سئل وهب, وإذا ضرب بالقداح سبق؛ وإذا أسر أطلق, وإذا أثرى أنفق. وكان أقسم بالله لا يقتل واحد أمه.
ومن حديثه, أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة, فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم, يا أبا سفانة, أكلني الأسار والقمل, فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي, وما معي شيء, وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك. ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قده حتى أتي بفدائه فأداه إليهم.
ومن حديثه. أن ماوية امرأة حاتم حدثت: أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع, فأخذ حاتم عديا, وأخذت سفانة, فعللناهما حتى ناما. ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام, فرفقت به لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة. فقال لي: أنت؟ مرارا فلم أجبه, فسكت: ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل, فرفع رأسه فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع, فقال: أحضريني صبيانك. فو الله لأشبعنهم. قالت: قمت سريعا فقلت: بماذا يا حاتم؟ فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل. فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج نارا. ودفع إليها شفرة وقال: أشوي وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي: أيقظي صبييك, فأيقضتهما. ثم قال: والله (أن) هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم, فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا ويقول: عليكم بالنار, فاجتمعوا وأكلوا. وتقنع بكسائه, وقعد ناحية, حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير, ولم يذق منه شيئا.
وزعم الطائيون أن حاتما أخذ الجود عن أمه غنية بنت عفيف الطائية, وكانت لا تليق شيئاً سخاء وجودا.
وأما مادر, فهو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة, وبلغ من بخله أنه سقى أبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلخ فيه ومد الحوض به فسمي مادرا لذلك, واسمه مخارق.
وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جللت خزيا هلال بن عامر ... بني طرأ بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار المعاشر
قال حمزة: وحدثني أبو بكر بن دريد قال: حدثني أبو حاتم, عن أبى عبيدة, أنه قرأ عليه حديث مادر فضحك. قال: فقلت له: ما الذي أضحك؟ فقال: تعجبي من تسيير العرب من أمثال لها, ولو سيروا ما هو أهم منها لكان أبلغ لها, قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل مادر هذا جعلوه في البخل مثلا بفعلة صدرت منه تحتمل التأويل. وتركوا مثل ابن الزبير مع ما يؤثر على لفظه وفعله من دقائق البخل فتركوه كالغفل.
فمن ذلك أنه نظر إلى رجل من أصحابه - وهو يومئذ خليفة يقاتل الحجاج بن يوسف على دولته, وقد دق الرجل في صدور أهل الشام ثلاثة أرماح - فقال له: يا هذا اعتزل حربنا, فإن بيت المال لا يقوى على هذا. وقال في تلك الحرب لجماعة من جنده: أكلتم تمري وعصيتم أمري.
وسمع أن مالك بن أشعر الرزامي من بني مازن أكل من بعير وحده وحمل ما بقي على ظهره. فقال: دلوني على قبره أنبشه.
وقال لرجل أتاه مجتدياً - وقد أبدع به فشكى إليه حفى ناقته -: أخصفها بهلب, وأرقعها بسبت وأنجد بها يبرد خفها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين جئتك مستوصلا لا مستوصفا, فلا بقيت ناقة حملتني إليك. فقال: إن وصاحبها.
قال أبو عبيدة: فلو تكلف الحارث بن كلدة طبيب العرب, أو مالك بن زيد مناة, وحنفيف الحاتم أطباء العرب من وصف علاج ناقة الإعرابي ما تكلفه هذا الخليفة لما كانوا يعشرونه, وكان مع هذا يأكل في كل أسبوع أكلة ويقول في خطبته: إنما بطني شبر في شبر, وعندي ما عسى يكفيني.
فقال فيه الشاعر:
لو كان بطنك شبرا وقد شبعت وقد ... أفضلت فضلا كثيرا للمساكين
فإن تصبك من الأيام جانحة ... لا نبك منك على دنيا ولا دين
وأما قس, فهو قس بن ساعدة بن حذاقة بن زهير بن أياد بن نزار الإيادي وكان من حكماء العرب, وأعقل من سمع به منهم, وهو أول من كتب من فلان إلى فلان, وأول من أقر بالبعث من غير علم, وأول من قال: أما بعد وأول من قال: البينة على من أدعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة وثمانين سنة.
قال الأعشى:
وأبلغ من قس وأجرى من الذي ... بذي الغسيل من خفان أصبح خادرا