وأخبر عامر بن شراحيل الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فلما فرغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا كلنا نعرفه, قال: فما فعل؟ قالوا: هلك, فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كأني به على جبل أحمر بعكاظ قائما يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا, كل من عاش مات, وكل من مات فات, وكل ما هو آت آت. أن في السماء لخبرا, وأن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع, وسقف مرفوع, وبحار تموج, وتجارة لن تبور. ليل داج, وسماء ذات أبراج. أقسم قس حقا لئن كان في الأمر رضى ليكونن بعده سخط. مالي أرى الناس يموتون فلا يرجعون؟ أرضوا؟ أم تركوا فناموا؟..
ثم أنشد أبو بكر رضي الله تعالى عنه شعرا حفظه له وهو قوله:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا نم الباقي غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
وأما باقل, فهو رجل من ربيع, وقيل من أياد. يقال: أنه أشترى ظبيا بأحد عشر درهما, فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي. فلم يقدر على الكلام, فمد يديه ونشر أصابعهما, ودلع لسانه مشيرا يردي أحد عشر, وخلى الظبي فشرد.
ومنه قول بعضهم:
عشن بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجد وكن هبنقة القي ... سي نوكا أو شيبة بن الوليد
يشير إلى حمق هبنقة المضرب به المثل واسمه يزيد بن ثروان, ويلقب بذي الودعات, أحد بني قيس بني ثعلبة, وبلغ من حمقه أنه ضل له بعير فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له, فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟.
ومن حمقه أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب إلى عرباض في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء, فقال الطفاوة: هذا من عرافتنا, وقال بنو راسب: بل هو من عرافتنا, ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؟ فلما دنا قصوا عليه قصتهم فقال هبنقة: الحكم عندي, أن يذهب به إلى نهر البصرة فيلقى فيه, فإن كان راسبيا رسب فيه, وإن كان طفاوياً طفا. فقال الرجل: لا أريد أن أكون واحد من هذين الحيين, ولا حاجة لي بالديوان.
ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودعة وعظام وخزف, وهو ذو لحية طويلة, فسئل عن ذلك فقال: لا عرف بها نفسي, ولئلا أضل. فبات ذات ليلة وأخذ أخوه قلادته فتقلدها, فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال: يا أخي أنت أنا فمن أنا؟.
ومن حمقه أنه كان يرعى غنم أهله, فيرعى السمان في العشب, وينحي المهازيل, فقيل له: ويحك ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلح الله, ولا أصلح ما أفسده.
ولنكتف من شواهد التلميح بهذا المقدار فإنه باب لا ينتهي حتى ينتهي عنه, ونورد الآن أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
إن ألقها تتلقف كلما صنعوا ... إذا أتيت بسحر من كلامهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع السحرة لما ألقى العصا.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
وتقرع السمع عن حق زواجره ... قرع الرماح ببدر ظهر منهزم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وبان في كتب التاريخ من قدم ... تلميح قصة موسى مع معدهم
قال ابن حجة: لم ألمح من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمحة تلدني على نور التلميح, لكنه ساق حكاية مضمونها: أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى عليه السلام مع معد, والله أعلم. انتهى, وهو في محلة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم
قد تقدم أن هذا التلميح استعملته الشعراء كثيرا في أقوالهم, أعني التلميح برد الشمس ليوشع, فما زاد ابن حجة عليهم بشيء يعلم, إلا بإعجابه بنظمه له, وتزكيته لنفسه بما تمجه الأسماع, وتنفر عنه الطباع.
وبيت بديعة الطبري قوله:
بمعجزات أتت كم أبهرت خصما ... كشاة خيبر تلميحا بعجزهم