وأما خمرية الشريف الرضي عليه من الله الرضا، التي أسكرت الألباب وانتشت بها قلوب أولي الآداب، فإن استعاراتها كلها بديعة وأبيات لطائفها على غير منيعة. وكان سبب نظمه لها، أنه على وفور شعره، وارتفاع شأنه، وغلاء سعره، لم يكن ينظم في باب الخمريات شيئاً، نزاهة منه وإجلالاً لقدره الشريف عن ذلك، فسأله بعض من يعز عليه من أصحابه القول في ذلك، ليشتمل ديوانه من الشعر على فنونه كما اشتمل على محاسنه وعيونه فقال:
اسقني فاليوم نشوان ... والربى صاد وريانُ
كفلت باللهو وافية ... لك نايات وعيدان
جار وفد الريح فالتطمت ... منه أرواق وأغصان
كل فرع مال جانبه ... فكأن الأصل سكران
وكأن الغصن مكتسياً ... من بياض الطل عريان
كلما قبلت زهرتها ... خلت أن القطر غيران
ومقيل بين أخبية ... قلته والحي قد بانوا
عسكرت فيها السحاب كما ... حط بالبيداء ركبان
في أصحاب مفارشهم ... ثم أنقاء وكثبان
فارتشفنا ريق سارية ... حيث كان الأرض غدران
فاسقني والوصل يألفني=إن يوم البين قرحان
قهوة ما زال يعلق في ... مجتناها المسك والبان
غير سمعي للملام إذا ... صاح شاجي الصوت مرنان
رب بدر بت ألثمه ... صاحياً والبدر نشوان
قدت خيل اللثم أصرفها ... حيث ذاك الجيد ميدان
لي غدير من مقبله ... ومن الصدغين بستان
في قميص الليل عبقة من ... ظن أن الوصل كتمان
كيف لا تبلى غلائله ... وهو بدر وهي كتان
وندامى كالنجوم سطوا ... بالمنى والدهر جذلان
خطروا والخمر تنفضهم ... وذيول القوم أردان
كم تخلت من ضمائرهم ... ثم الباب وأذهان
كل عقل ضاع عن يقظ ... فهو في الكاسات حيران
إنما ضلت عقولهم ... حيث يعيبهن وجدان
فاختلس طعن الزمان ... إنما الأيام أقران
وله أيضاً رضي الله عنه:
أشكو ليالي غير معتبة ... أما من الطول أو من القصر
تطول في هجرهم وتقصر في ... الوصل فما تلتقي على قدر
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر
وما أرق قوله من أبيات:
آها على نفحات نجد أنها ... رسل الهوى وأدلة الأشواقِ
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي:
نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الظل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجهة الصبح لثاما
تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما
حول الزهر كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهن ختاما
يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما
أبلغن شوقي غريباً باللوى ... همت في أرض بها حلواً غراما
فرشوا فيها من الدر حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تناما
واستعدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما
وقول التنوخي وهو من غريب الاستعارة:
ورياض حاكت لهن الثريا ... حللاً كان غزلها للرعودِ
نثر الغيث در دمع عليها ... فتحلت بمثل در العقود
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
وعيون من نرجس تترائى ... كعيون موصولة للسهود
وكأن الشقيق حين تندا ... ظلمة الصدغ في خدود الغيد
وكأن الندا عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب البلخي من أبيات:
وكم قد قضى ليل على أبرق الحمى ... مضيء ويوم بالمسرة مشرقُ
تسرقت فيه اللهو أملس ناعما ... وأطيب أنس المرء ما يتسرق
ويا حسن طيف قد تعرض موهنا ... وقلب الدجا من صولة الصبح يخفق
وقول ابن عمار: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى=والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استرد الليل منا العنبرا
وقول ابن النبيه:
والنهر خد بالشعاع مورد ... قد دب فيه عذار ظل البانِ