نقل الحافظ اليغموري: أن أبا نصر المنازي واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب، فأنشد كل واحد من شعره ما تيسر.
فأنشد المنازي: (وقانا لفحة الرمضاء وادٍ) - الأبيات - فقال أبو العلاء: أنت أشعر من بالشام، ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل أبو نصر المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد، وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً، فأنشد كل واحد ما حضره من شعره.
حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد:
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى
شجى قلبي الخلي فقيل غنى ... وبرح بالشجي فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صب ... إذا اندملت أجد لها جراحا
ضعيف الصبر عنك وإن تقادى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة ... كأحداق المها مرضى صحاحا
فقال أبو العلاء: ومن بالعراق، عطفاً على قوله: من بالشام، والله أعلم بصحة ذلك.
ومن اللف والنشر بين ثلاثة وثلاثة. قول الشيخ محمد باقشير من أهل العصر في بياع زيت جميل الصورة:
أفديه زياتاً رنا وانثنى ... كالبدر كالشادن كالسمهري
أحسن ما تبصر بدر الدجى ... يلعب بالميزان والمشتري
وفي البيت الثاني من البديع مراعاة النظير والتورية في محلين، ولله دره في هذين البيتين فلقد حاز بهما قصبات السبق في ميدان البلاغة، وأعجز صاغة القريض بحسن هذه الصياغة.
ومن غريب ما يحكى: أن الشيخ المذكور لم يكن يذوق من العربية شيئاً، وإنما نظمه من سليقة تفرغ في قوالب الكلام إبداعه وإحسانه، وتحمله على أن ينشد (ولست بنجوي يلوك لسانه) فيأتي من بديع النظم بما يشنف الآذان، ويهجم على القلوب من دون استئذان، فيبهر العقول بما يقول ويبهج النفوس بشعر المأنوس. ولا بأس بإثبات شيء منه هنا، ليكون شاهداً على ما ذكرناه، فمنه قوله يهجو جارية له سوداء مداعباً، وكتبها إلى السيد أحمد بن مسعود بن حسن الحسيني.
أبت صروب القضا المحتوم والقدر ... إلا أشابة صفو العيش بالكدرِ
وإن من نكد الأيام أن قربت ... دار الحبيب ولكن شط عن نظري
بي من سطا البين ما لو بالجبال غدت ... عهنا وبالسبعة الأفلاك لم تدر
نوى الأحبة والشوق الشديد وبي ... جوى تجدده مهما انقضى فكري
وزادني الدهر هماً لا يعادله ... هم بسمراء ألهتني عن السمر
زنجية من بنات الزنج تحسبها ... حظي تجسم جثماناً من البشر
كأن قامتها ليلي ومنخرها ... ذيلي وحسبك من طول ومن قصر
لها يد ألفت خطف الكسار ولو ... أمست تحوط بالهندية البتر
تسطو على القرص سطوي غير ذي جبن ... لو أنه بين ناب الليث والظفر
كم غادرتني من جوع ومن سغب ... حزناً أعض بنان النادم الحصر
ورب يوم غدا موتي يجر عني ... كاساته فيه حتى عيل مصطبري
أروضها تارة عتباً وأزجرها ... طوراً فلم ينهها عتبي ومزدجري
وربما أفحمتني القول قائلة ... ما لو أدرت جواباً عنه لم أحر
تخشى الردى وبنود المجد خافقة ... على ابن مسعود فرع الفرع من مضر
ليث القساطل جرار الجحافل محطا ... م الذوابل أمن الخائف ألحذر
وقوله في التشبيب:
ألآل ما أرى أم حبب ... أم أقاح لا ولكن شنبُ
حرمت وهي حلال قد جرى ... في خلال الطلع منها الضرب
ما درى بارق ذياك اللمى ... أن لي قلباً به يلتهب
دع لما قد نقل الراوي لنا ... عن لماه ما روته الكتب
آه ما أعذبه من مبسم ... وهو لو جاد به لي أعذب
ليت لو أن منالاً منه لي ... غير أن البرق منه خلب
جؤذر يرنو بعيني أغيد ... من مها الرمل أغن أغلب
هز عطفيه فلم يدر النقا ... أقنا ما هزها أم قضب
ومحيا كلف الحسن به ... فغدا ينشد أين المذهب
رق فاستعبد ألباب الورى ... فله في كل قلب ملعب
يا لها من نعمة في ضمنها ... مهلك هان وعز المطلب
وقوله في مليح اسمه قاسم:
يا من أبى إلا الجفا قسمة ... للصب آهٍ إن قسا الراحمُ
ما الصد كالوصل ولكنها ... ظلامة جار بها قاسم